ناجح المعموري
تأخرت كثيراً بقراءة منحوتات بغداد بين الفن والسياسية للفنانة الدملوجي وشعرت بالأسف لذلك بعد الاطلاع على هذا الكتاب الذي يعني بالنسبة لي جهداً انطولوجيا بين الفن والسرد والتاريخ وسردياته مع تنوع اثني وحضور تعدد ثقافي،
لعب دوراً كما اتضح من خلال الكشوف العميقة التي قدمتها الدملوجي التي توفرت على عناصر ثقافية ومعرفية. خبرتها المعمارية، منحتها طاقة المعاينة وذكاء فحص المراحل التاريخية والمجالات الاجتماعية، وهذا اهم ملمح اضفى قوته على الجهد الفني والكشوف الاجتما ــ سياسية، وساعد كل هذا على اضاءة ملامح الشخصية ذات العناصر المكونة لإرادتها وهي تلتقط تجوهرات الاعمال الفنية التي لم تكن منعزلة عن تعددات الفضاءات الاجتماعية والصراعات السياسية.
وكشف هذا العمق الذي قدمته الدملوجي عن خبرة الذاكرة المتراكمة وسط خزان عميق التقط اهم التنوعات الدالة على الخزان وتشكلات الجماعات في الماضي وامتدادها حتى الحاضر، بحيث تحولت الى قوة واهم القوى هي الحاضرة الان وباستمرار وهذا ما قاله امين معلوت ويفضي مثل هذا التراكم والتكون نوعاً من التمجيد للتاريخ وسردياته وانا واثق بأن جغرافيا بغداد اهم الفضاءات التي كانت وما زالت متجوهرة ما حفظته الذاكرة العميقة من ثقافات وتنوعات لا مثيل لها بتعدداتها.
انفتح هذا المنجز الفني الرفيع عن مرجعيات اضاءت ذاكرة فنانة ذات قدرات عالية، وتنوعات ثقافية ومعرفية رصينة، ففي مقدمة الكتاب اضاءت العناصر المركزية المكونة لحضارة العراق القديم الذي امتد فاعلاً في حضارات الشرق ومؤثراً بتوسيع وتعميق الحوار وفتح اكثر المجالات حضوراً واعني بها الفنون لتتحول روحاً حية معبرة عن تجوهراته التي تمظهرت عبر كشوف لها تأثير وحضور عميق واعني به الموروث الممتد السومري والاكدي، حتى ساهم بتكوين طاقات لعبت دوراً حيوياً في تكوين هوية كبرى، وجدت بين تنوعات قومية واثنية ودينية. ولعب مثل هذا التشكل اهم الادوار في رسم ملامح الشخصية الوطنية وتأطير ملامحها بما يضيء ديمومة حضورها واشعاعها.
كان للمقدمة دور متمركز، لأنها رسمت حيوية التراكم واشارت لتطوراتها التي لعبت دوراً باهرة في الاطار الكلي الموروث والذي تمظهر في الثقافة وتعددات الفنون وهندسة المدن حيث كان تأثيرها بارزاً في العناصر الهوياتية ذات الملمح الوطني المتكرر « الذي امتلك كل عناصر الاعتزاز والفخر. بماضيه العميق، من دون ان ينعكس ذلك ملموساً في الحاضر وبعيداً عن الخوض في عملية الحنين « نوستالجيا « الى رؤى مهملة وغير واقعية مع ان: النوستالجيا « تبدو وسيلة دفاع في الأزمة المعنية بالأحداث المتسارعة والاضطرابات تشف الملاحظات العميقة على الجغرافيا العراقية عن صعود ذاكرة غنية، ذات تنوع خصب وغني، بمعنى تفيض الباحثة الفنانة علينا بخيرات ووعي يضيء عتمات تأخذ المتلقي. ليلتقط الكثير من الغني الذي تفيض به العتبات الحضارية، بمعنى الشعرية الكامن والذي يشير الى المختفي كثيف وجليل وهو اكثر مما يظهر فوق سطح الطبقات وبالإمكان التوصيل الى خلاصة جوهرية لن تنساها ذاكرة المتلقي، بل تظل جزءاً من الحاجة الثقافية التي تلعب دوراً في تبلور الهوية الوطنية، كما انها تلعب ما تتمكن عليه من اجل ترصين الماضي الذي يظل فياضاً بالمكونات اكثر مما يومئ له الحاضر. والمثير في اراء ميسلون هو ان الماضي شر، مكتنز وكأنها تؤكد فلسفة ميرلوبونتي عندما قال الغائب في الماضي اكثر طاقة من الموجود بالحاضر وهي بذلك تمجد الذاكرة، وتعطي خزانها نوعاً من التمجيد والعظمة. ولعل ملاحظة هيغل في فلسفة التاريخ اكثر تجسيداً لما ذكرنا عندما قال بأن الممكنات اغرز واخصب وارحب من الواقع، ذلك لان الواقع يكشف لنا دائماً عن جوانب ناقصة وبعبارة اخرى فان الواقع الحاضر بالغاً ما بلغ قدرة فهو يحمل في باطنه قدراً من « الامكانات « اكثر ثراء وخصوبة مما هو قائم بالفعل، وهي امكانات تسعى حثيثاً الى التحقق والى ان تحل محل هذا الواقع.
منحوتات بغداد من اهم المصادر الفنية التي اهتمت بالأصول الحضارية والدور المبكر للمعاصرة ودور مؤسسات الدولة من اجل تجميل المدينة، ولعل اقتران الحدث السياسي بالفن هو من اهم التوصلات التي التقطتها الفنانة والمعمارية ميسلون الدملوجي وهذا من المحصلات التي لم يشر لها من قبل، وهي ميسلون. اول من ابتكر ملاحظة اقتران السياسي بالفني والحدود التي يتمتع بها المسؤول المشبع بروح الجمال وهذا غائب الان مع الاسف. والاكثر تحاوراً هو نصب الحرية الذي انجزه الفنان جواد سليم بالتعاون مع امكانات فنية معروفة.
سردية جواد سليم
أن النحت مكون من حكاية وزمان، بمعنى تفاصيل التاريخ وكان السرد التاريخي متخيلاً، كلما تمظهر عن طاقات كبرى، لها دور بارز في رسم الحدود البنائية للعمل الفني وادركت الفنانة ميسلون استمرار الضرورة والماهية التي جعلت من الواقعة سبباً مركزياً لوجود العمل الفني.
الملاحظة التي تتبادر للذهن حول نصب الحرية هي التفصيل السردي واللجوء الى نثر الوحدات السردية. ولم يكن للتاريخ حضوره المطلوب والمعروف والذي تحدثت عنه في ابتداء الكتاب، بحيث صارت لحظة سومر هي الاستهلال الحيوي، لكن رموزها التي هي الاصول لم تتم الاشارة لها في نثر الوحدات السردية المكونة للنصب.
نجح الفنان جواد سليم بإنتاج سلطة طاقة سردية بالوحدات السردية للنصب، بحيث تحول الى سلطة متعايشة مع الواقع والعلاقات الفردية والجمعية، وحتماً سيكون للكائن الذي ادرك ما تعنيه العلاقة مع التاريخ المتخيل والمعبر عنه بالوقائع والاحلام والتصورات الشعرية، مثل هذا الكائن ممتلك لطاقة الدنو اكثر فاكثر من الحياة اليومية وامتلاكه مقدرة اخضاع اليومي لما هو بحاجه اليه من جماليات. وسنتعرف على الواقع اكثر فاكثر مثلما هو حاصل مع الجماعات التي تفتقر افتقاراً تاماً الى الحرية مع انها ماهية العقل. ولابد من تغيير الواقع « عبر المعقول « الى ان يصبح متمشياً مع العقل لذا « ربط هيغل برباط وثيق بين العقل والحرية، واعتبر الحرية ماهية العقل، كما ان الثقل هو ماهية المادة.