أوس عز الدين
يقول الناقد والأكاديمي الفرنسي (( رينيه جيرار )) في كتابه ((الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية)) : ((نظن أننا أحرار ومستقلون في جميع خياراتنا، سواء كان ذلك في اختيار شخص معين أو غرض معين، وهذا مهم ، والحقيقة هو أننا لا نختار إلا الأغراض التي يرغب فيها الشخص الآخر، والتي تحفزها في أغلب الأحيان المشاعر الحديثة ، كما يسميها (( جيرار ))، وهي ثمرة الغرور العام ، لنا، والتي تتمثل في الغيرة والحسد وغيرهما)) .
إن هذه الفكرة تلفت انتباهنا عندما نفكر في الكيفية التي يتعامل بها الكثير من المستخدمين مع الإنترنيت كفضاء حر، وكوسيلة للحرية يعوض بها الفرد احباطاته من جميع القيود التي تثقل وجوده في الفضاء الواقعي، والتي تجعله يشعر بأنه لا يمتلك إرادة حرة حقيقية.
إن أول ما يمكننا أن نلتفت إليه في هذا الصدد هو التغير الذهني الذي يطرأ على الشخص، وخصوصا في مجال الاتصال الاجتماعي، حينما يقوم في استخدام هذه الوسائط، فهو كثيرا ما يبدو مختلفا عن الشخص الواقعي الذي يمثله في المجتمع الواقعي، لأن التعامل الافتراضي مع الآخر عبر الشبكة الافتراضية غالبا ما يتيح للفرد لونا مميزا من التحرر من قيود المواجهة المباشرة، ويجعله قادرا على التعبير عن آرائه المختلفة أحيانا بشكل أكثر وضوحا، إضافة إلى إحساسه بعدم خضوعه لقيود اللباقة الاجتماعية المتعارف عليها في اللقاءات المباشرة مع الغير، مما يجعله في الكثير من الأحيان أكثر حدة في التعبير عن آرائه.
ولكن ، في النهاية ، إن الفرد يضع العديد من الاعتبارات الخاصة بشخصه الحقيقي مهما كان مختلفا كشخصية افتراضية، ولذلك تظهر على الشبكة الافتراضية، وخصوصا في فترة سابقة لما نعايشه اليوم، ظاهرة شيوع الشخصيات الافتراضية التي يختلقها مستخدمو هذه الشبكة، لكي يمكنهم التعبير عن شخصياتهم بحرية تامة وكاملة، وكل ذلك من دون رقيب أو خوف أو من قيود المجتمع الاعتيادية المختلفة، بحيث يجد الفرصة لكي يقول ما يشاء ويفعل ما يرغب على شبكة الإنترنيت، باختيار الشخصية الافتراضية الخاصة به، ولها هوية خاصة ولغة مختلفة تماما عن اللغة التي قد يستخدمها الشخص في حياته العادية .
وعلى سبيل المثال، سنجد مثلا على موقعي الـ ((فيسبوك)) و((تويتر)) شخصيات بأسماء اعتبارية يعبر بها الشخص عن شخصية معينة يحب أن يعرف بها نفسه، وقد تكون وصفا أو نوعا من المسلك، كأن يسمي نفسه ((حكيم الزمان)) أو ((المتهور))، أو ما شابه ذلك من آلاف الاختيارات، لكي يقول ما يشاء من دون أن يخشى النقد الاجتماعي لشخصيته الحقيقية.
وإن مثل هذا السلوك الافتراضي سوف يتضمن في جانب منه، محاولة لاختبار فكرة الحرية، أي حرية الشخص نفسه، وذلك في أن يقول أي شيء، مهما كان هذا الشيء انتقاديا، وإن يدخل إلى أي موقع والتعليق عليه، مهما كانت هذه التعليقات حساسة، كأن تتناول مواضيع دينية أو سياسية أو جنسية وبلا خوف من أي رقيب.
ومثل هذا السلوك أيضا يحيل بالتأكيد لمفهوم الإرادة الحرة، والتي لاقت نقاشات كثيرة وواسعة في السياسة والفكر، وعلى مدى تاريخ الفكر البشري.
فمسألة الإرادة الحرة تناقش إذا ما كان شخص واعياً ويملك تحكما كاملا في جميع قراراته وتصرفاته، وعادة ما يتطلب التناول لهذه المسألة فهم العلاقة بين الحرية والسببية، وتحديد ما إذا كانت الأحداث في الطبيعة حتمية بسبب أو بآخر.
وبشكل عام، تختلف الكثير من المواقف الفلسفية حول ما إذا كانت جميع الأحداث حتمية الحدوث أم لا ، وأيضا على ما إذا يمكن أن نعيش مع الحتمية أم لا .
وبشكل عام تعكس فكرة اختبار الفرد لحريته مواجهته للعديد من العوامل المقيدة لإرادته في التعبير عن رغباته، سواء تمثلت تلك القيود في السلطة أو القوانين أو التقاليد الاجتماعية، وغيرها .
وللكاتب الفرنسي الكبير (( ألبير كامو )) العديد من المقالات التي تتعلق بموضوع الحرية ، وهو من الجيل الذي شهد ثورة (( 1968 )) الأوروبية ، والتي ثارت وتمردت على الأفكار التقليدية، وطالبت بتحرير الإنسان الغربي من كل ما كانت تمارسه السلطات ضد حريته الشخصية، ومن بين إحدى مقالاته مثلا: ((إن كل محاولة للعصيان لأي شخص تتضمن نزوعا وحنينا للبراءة الإنسانية وتعبيرا عن حرية ذلك الشخص))، أو قوله :((إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن نعيش في عالم لا يتمتع بالحرية هي أن نكون أحرارا تماما، حتى يكون وجودنا هو حالة من التمرد)) .
ولولا شاشة الكومبيوتر والفضاء الإلكتروني لما أتيحت للكثير من الأفراد الفرصة لكي يختبروا مثل هذه المقولة ويحاولوا تطبيقها افتراضيا.
وبغض النظر عن التقييم الاجتماعي والأخلاقي لهذا السلوك ، فإن ما يهمنا هنا هو التوقف عن دلالته في عملية استخدام الإنترنيت في تأثيره على اختبار الإرادة الحرة لجميع الأشخاص.
ومن المؤكد أن ما اختبره العديد من المستخدمين لشبكة الإنترنيت وعلى مدى السنوات القليلة الماضية من حرية الفعل والقول من جهة، وحرية نقل وتداول المعلومات عن كل شيء تقريبا من جهة أخرى، قد أثر وبشكل ما في شخصياتهم في الواقع، وخصوصا أننا نشهد اليوم انتفاضات وثورات دفع آلاف الشباب والرجال وحتى الأطفال والسيدات حياتهم ثمنا للحصول على تلك الحرية الضائعة في الواقع الذي كنا نعيشه ، وبالتالي ، فمن المتوقع أن تنتقل الكثير من الظواهر ، والتي تبدو استباقية على الإنترنيت إلى الواقع بمرور الوقت ، والتي من بينها فكرة الحرية .
وصحيح أن الأفراد الذين يعانون القهر والكبت والتقييد حين يحاولون كسر تلك القيود ، قد تبدو محاولتهم للتعبير عن حريتهم أحيانا فيها لون من الحدة ، ولكن الإنسان بطبيعته أيضا يميل للتوازن أيضا ، فكلما قل إحساسه بالمنع أو القيد ، فإنه مال إلى التوازن والإحساس بالحرية المطلقة كقيمة وقدرة على الاختبار له .
لكن السؤال الذي يطرحه الناقد الفرنسي (( رينيه جيرار )) ، والذي بدأنا بمقطع قصير لهذا المقال ، ففي الحقيقة يناقش موضوعا آخر لا يقل أهمية من موضوع الحرية ، وهو ما مدى رغبة الأفراد الذين يرغبون في تنفيذها ؟
فهو يرى أن رغباتنا ليست مستقلة ، بل تثيرها في أنفسنا رغبة شخص آخر في نفس الغرض، وهذا الشخص يسميه ((جيرار)) بـ((الوسيط)) ، وبالتالي تأخذ تلك الرغبة شكل المثلث، وهو ((مثلث الرغبة))، والذي يضم تلك الأطراف الثلاثة، أي الشخص الراغب والوسيط والغرض المطلوب.
وبالتالي، فإن ما يدعونا إليه (( جيرار )) للتفكير فيه هو ليس فكرة اختبار الفرد لحريته، بل في بحث أصل هذه الرغبة أصلا، فعندما نولد ونرث دين آبائنا ونتدين به فهل يعد ذلك تعبيرا عن اختيار حر لإرادتنا الشخصية أم إنه مجرد تمثل رغبة آبائنا في وراثة التدين لهذه العقيدة أو غيرها؟ وبالتالي فما يبدو لنا اختبارا حرا هنا هو ليس سوى اختبار رغبة الآخرين نيابة عنا.
وبالتالي، يصبح السؤال أيضا، هو هل كل ما نفعله على فضاء شبكة الإنترنيت يعبر عن رغبات أصيلة لنا؟ أم أن التأثر بسلوكيات المجتمع الإلكتروني الذي نتصل به سوف يؤثر في اختياراتنا ورغباتنا، والتي نتصور لاحقا إنها رغباتنا نحن واختياراتنا دون وعي منا بذلك أبدا.
وهذا السؤال يحتاج للإجابة عنه إلى دراسة واسعة ومفصلة لسلوكيات الأفراد على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي فضاء المدونات الإلكترونية المختلفة، وغيرها من أشكال الاتصال الثقافي الاجتماعي.
وهنا سوف نلاحظ أن محاولة التحرر الفكري لكي يشعر الإنسان بحريته، سوف تجعله عادة ما يذهب إلى الاصطدام بكل الثوابت التي يتحرك فيها المجتمع لكي يعيد النظر فيها، وهذا وضع طبيعي في الفترات التاريخية التي تحدث فيها الثورات على سبيل المثال ، إذ تتم خلخلة جميع القيم المتعارف عليها وإعادة النظر في القيم الموجودة ، على أساس أن تلك القيم الموجودة كانت سببا، ولو ضمنيا، من أسباب نشأة الثورة، لذلك نرى الأفراد يراجعون مفاهيم تبدو ثابتة تماما، مثل مفهوم الدولة نفسه، ونظام الحكم السائد، ومدى توافقه مع المفاهيم الديمقراطية الحديثة، وكذلك وسائل الأمن وحفظ الاستقرار، وطبيعة النظام التعليمي السائد، ومدى تحقيق مؤسسات الدولة القائمة لقيمة العدل التي تبنى عليها فكرة الثورة.
إن فضاء الإنترنيت يبدو قادرا بالفعل باستمراره على التقدم، على المجتمع الواقعي، لكن ما يحققه المجتمع الافتراضي سرعان ما يصبح ملحا في المجتمع الحقيقي الواقعي، ولذلك فكما كانت الثورات قد بدأت الوسائط الافتراضية على شبكة الإنترنيت ، وكما كانت اللحظات الأولى لاختبار المعنى العام لمفهوم الحرية قد ظهرت لها العديد من الشواهد على هذه الشبكة ، ثم انتقلت إلى الشارع في بلدان الربيع العربي جميعا ، فمن المؤكد أن هذه الظواهر الخاصة برغبة الأفراد في الحرية سوف تجد طريقها إلى الواقع أيضا ، وخصوصا مع شيوع ظاهرة قفز التيارات الدينية على الثورات الشعبية المدنية ، كما حدث في تونس أولا ، ثم في مصر وليبيا ، فسوف تعمل الجماعات الليبرالية المدنية المؤمنة بمدنية الدولة ، وبالتأكيد ، على اختبار نوايا القوى الدينية باعترافها بالدولة المدنية ، كما أعلن رموزها، وأن مثل هذه الدولة المدنية سوف تعني قانونيا وضمنيا الحرص على الحريات الشخصية لجميع الأفراد.