TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: ثيابُ أهلينا وقد بُليت

قناطر: ثيابُ أهلينا وقد بُليت

نشر في: 26 يونيو, 2022: 10:50 م

 طالب عبد العزيز

لم أفهم لماذا كانت تأمرني أمّي بوضع قدمي على كلِّ ثوب جديد، يأتي به ابي لي! فأفعل ذلك، كما لو أنني أسحقه، لا أتذكر من وصايا أمّي إلا هذه، لذا، صرتُ أفعل هذا الى اليوم، لكنني ما زلت أجهل أصل الحكاية، ولم أجد تفسيراً موضوعياً لها، لعلها كانت تعني بذلك دفع العين الحاسدة، التي تقع فجأة على ما هو جديد، وربما كانت شيئاً من أمنية في قلبها. مات ابي وأمّي من بعده، وظل السرُّ عندهما.

لست حزيناً لأنني لم أقع على تفسير حقيقي لذلك، بل أنا موغل في حبِّ ما هو مُستغلق ومجهول، فقد كنت كثيراً ما أحاول أنْ لا اضع نهاية للحكاية، التي أصطنعها لأبني قبل النوم، وبقيتُ أفعل ذلك مع أحفادي واسباطي، اشعر أنَّ كل خاتمة للافعال الجميلة هي خاتمة سئية، بما فيها أفعال القُبل والعناق والجنس، هناك هوة عميقة يتركها الفعل الانساني الجميل ذاك، لا تردم أبداً، وما كلمة الشكر إلا الصدى الباهت للفعل هذا. لذا، فأنا أشعر بفراغ أسود مديد، وبلا نهايات، لا أجد ما أضعه فيه. فأجدني، أشْرعُ ببداية ما لكلِّ حكاية جديدة، عند كلِّ خاتمة لحكايةٍ قديمة. يعيب علي أولادي ما أقوم به من محاولات في اصلاح كثير مما ينكسر، ويتلفُ من حاجيات البيت، حتى ليعتقدونه بخلاً. أذكر أنني اخذتُ المكواة الى مصلح الاجهزة الكهربائية بعد عُطْلها، فطلب مبلغاً تجاوز نصف سعرها الاصلي، لكنه أشفق على حيرتي، فنصحني بشراء أخرى جديدة، لكنني رفضت، فأذعن لطلبي، وأعطيته المبلغ.

الحياة من حولنا تُفسدُ بأفعال يظنها البعضُ حسنةً، يأخذ الناس الى مكب النفايات الكثير من الأغراض التي أنفقوا عليها المبالغ الكبيرة، حال وقوعها وكسرها أو تعطلها، مراوح وأجهزة الكترونية، أواني، وملابس، وأحذية، وأجهزة كهربائية، وحقائب وغيرها، سرعان ما يتخلصون منها برميها خارج البيت، غير مبالين بما كان لها من حضور بينهم، ولا مدركين لمعاني الالفة التي جمعتهم وإياها، هي لعنة الاستهلاك، التي استشرت بين الناس، بعامة في السنوات الاخيرة. الصنّاع الصينيون يُفسدون على الناس حياتهم، هناك إفراط في التخلي عن كل شيء، فلا عِشرةٌ ظلت، ولا وفاءٌ عندهم.

ليت بيتَ مالِ المسلمين احتفظ لنا بمِدرعة الامام علي بن ابي طالب التي قال فيها:” والله، لقد رقعتُ مِدْرَعتي حتى استحييتُ من راقعها” بدلاً عن عشرات الكتب، والاقوال التي تنسب اليه، فلا يأخذُ أحدٌ بها، ليت أعيننا تقع اليوم على العشرات والمئات من حاجيات وأغراض وثياب آبائنا وأجدادنا، وبما رقعّوا حياتهم به، تلك الثياب التي أخلقها الفقر، ورتّقها العوز، وتباوبتها يدُ الحيرة والذُّل، ما أصدقها، وأخلصها على أجسادهم، وبين أيديهم.. ولأنني، ابن خمسينات القرن الماضي فقد كان مألوفاً لي معاينة الثيابَ تلك، وهي معلقةً بالمسامير، على حياطين الطين، أو ملقاةً على الجريد، لكم قلبتُ الخيوطَ التي كان إنتزاعها يعني الجحود والعقوق، ثياب أهلينا التي استعصى على أيدي أمهاتنا رتقها، الثياب الدافئة، الدفيئة تلك، لكم زهدنا بها فافترشتها القطط في ليالي القرِّ الخصيبية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: الرياض تقرأ

العمودالثامن: حميد النوستراداموس الهايس

العمودالثامن: في الحاجة إلى مسؤول شجاع

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: في البحث عن عيد وطني

العمودالثامن: الرياض تقرأ

 علي حسين لا يتوقف معرض الرياض الدولي للكتاب عن مطاردة القراء وملاحقتهم من خلال غابة الكتب التي توسطت جامعة الملك سعود بن عبد العزيز . عناوين تقول كلاماً واحداً " إقرأ" ، فيما...
علي حسين

كلاكيت: الوثائقي المتخيّل كاميرا بعين مليئة بالخوف

 علاء المفرجي امرأة تبرز بين الجموع، وخلفية الصورة أنقاض بناية تنهار بفعل صاروخ قبل دقائق، المرأة تولول وتصرخ باحثة عن طفليها، المتلقي يعرف انها من سكان البناية المتهاوية، لكنها كانت خارجها من اجل...
علاء المفرجي

واشنطن ودعم الانقلابات القاتلة: ايران 1953

د. حسين الهنداوي (1)خلال فترة ما يعرف بالحرب الباردة (1945-1990) لحماية وتعزيز مغانمهما الكبرى في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبينما ركز الاتحاد السوفيتي على دعم الاحزاب الشيوعية الموالية له حول العالم ، ركزت الولايات...
د. حسين الهنداوي

الجهلاء لا يدركون جهلهم

د. محمد الربيعي كيف اظهر لنا "تاثير دانينغ-كروجر" ان الجهلاء ليس لديهم ادنى فكرة عن مدى جهلهم. يتساءل الفيلسوف الشعبي البارز ويليام باوندستون عما اذا كنا نبالغ في القلق بشان زيادة الجهل.في هذا المقال،...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram