جمال العتّابي
منذ البداية أدركُ معنى أن يمتلك الشاعر صوته الخاص، وأسلوبه، ولغته بما يميّزه عن الشعراء الآخرين، بمعنى أنه يوقد بذاته مسارج أشعاره في عالمه الشعري، كاظم اللايذ ينطلق من بيئته ومحيطه وثقافته، ورحلاته وأحلامه في مجموعته الشعرية (بيدها تسقيني أكواب البابونج)، الصادرة عن دار أمل الجديدة في دمشق، عام 2021.
المدينة، والأمكنة، والأسماء، تأخذ مقاماً حميماً في تجربته الشعرية، ولأن القصيدة رؤيا، تتشكل في رحمها الإيقاعات والصور والمشاهد والرموز والصياغات، فانها ترتبط في نهاية الأمر بالإدراك الجمالي الكلي، إذ يمتزج الفكر والوجدان بالتركيب الفني، والمخزون الثقافي.
كل هذه العناصر تنصهر في بوتقة فنية لا يمكن فصل بعضها عن النص، العملية هي إمساك بالحياة في لحظة تحولها، والحياة مزيج معقد يتفاعل مع الذات الشاعرة فتنتج القصيدة، التي هي إستبطان عميق وواعٍ لعلاقة الشاعر بتحققه الإنساني، وجدله مع واقعه وعصره:
يعيش معي/كائن غامض/لا أراه/ أحسّ بخفقة أقدامه حين يمشي/ وألمح أشياءه حين يتركها في الأرائك/ يروح ويأتي / ولكنني لا أراه
(قصيدة لا أراه)
اللايذ يكتب في حالة صفاء ذهني، بوعي حاد بما حوله، قد يتدخل اللاوعي بعدئذٍ، لكن لا علاقة له بأي مغيّب خارجي، الشاعر في ذروة صحوه، يستعين بالذاكرة، لكن الواقع يظل ماثلاً أمامه رغبة في صياغته وتشكيله من رحم المعاناة، كذلك المستقبل يستشرفه عبر توحّد الذات بالعالم،، لتأتي النصوص منسّقة متساوقة مع بعضها، كأنها تمثل قصيدة واحدة، بالرغم من من تنوع العناوين وإستقلاليتها:
يا أبانا الذي في الشواطيء/ أيها (الشط الكبير)، بهذا الإسم يحلو أن نسميك/ لم أرك حزيناً إلا أيام الحرب/ السماء من فوقك ملبّدة بالدخان / وسفنك تحترق أيام الحرب.
في شعره موسيقى تنساب من غير إلتواءات، وإيقاعاته المختارة تثبت حسّ الشاعر العروضي في إستخدام الأوزان، فضلاً عن إفادته من التداخل الإيقاعي كميزة حققها شعر التفعيلة خلال حركته التحديثية، قصيدته ميّالة للتركيز والإلتئام، تتسرب في سلاسة ووضوح، يقترن فيها البوح الهادىء بالنغم والتعبيرالصافيين، بالإستعارات الطازجة الحيّة بديلاً عن التركيب المعقد للجمل الطويلة المتشابكة:
خلقني ربي من طين/ ولكنه منحني مزاج الآلهه/ إذا أرادوا شيئاً أن يقولوا له: كن فيكون/ في صباي شغفت بالعود/ لم يمض إسبوع حتى مللت/ تركت العود دون أن أتعلم شيئاً
قصيدة (أشتاق إلى المقهى) تفيض حيوية فتأتي اللغة مثقلة بالوهج (الطبقي) والحنين:
مشتاق إلى المقهى/ إلى الأرائك الخشبية/ التي لا تملّ من سماع الحكايات / مشتاق إلى أصدقائي الذين مالبثواعلى موعدهم مع الديالكتيك/ بوطن حر وشعب سعيد/ مشتاق إلى مقهاي.../ وكأنني غادرته منذ سنين
السياق الشعري أكثر سطوعاً، والصور أكثر دقة ونقاء، فضيلة السطوع متحققة في قصيدة (لا أسمع)، فهي قصيدة طافحة بالبراءة والنهايات المفجعة، بنفس غنائي دافيء:
أنا الذي لا يسمع/ ينبهني حفيدي/ أن ملائكة/ ما فتئوا يقرعون باب بيتنا/ منذ ساعات الصباح...
وإن (إسرافيل) قد بدأ النفخ في الصور/ وأن الموتى بدأوا ينهضون/ وأن القيامة قد قامت.
يبدو الشعر في أفضل أحواله، في قصيدة (ما الذي ذكرني بك يا ابنة الأوراس)، تبدأ بحركة، تتنامى بها فتضجّ القصيدة بحياة لا تقتصر على الذكرى، بل تغمر البحار والسحائب، وأعماق المحيطات، بفيض تلك طاهرة القلب، الإقحوانة، أين هي الآن؟ هي الحلم الفاجع المتراكم على ذاكرة غبار السنين.
تتوجه القصائد نحوالإهتمام بالعنصر، أو ما يسمى بالتفاصيل، شعراء هذا التوجه ينظرون في حركة الأشياء حولهم، يحاورون عالمها، في نص (نزيل المقهى)، نستدل على عنايته الفائقة باللقطة المشاهدة المعيشة، لكن العين هي القادرة على الإمساك بالصورة، والكشف المحّرك النابض بالشعر، لحظة تحول اليومي المألوف إلى شعري بدلالته الإيحائية المرئية:
بعد أن هجر بيته/ وذهب ليسكن المقهى /إتصل بـ (خازن الزمن)/ يعلمه بعنوانه الجديد/ سأله شاب يجلس أمامه/ وقد رآه يأخذ قيلولة واقفاً مثل المشنوق/ ما يمنعك أن تستريح في البيت أيها العم/ أجابه: لاشيء، ولكنني خشيت على نفسي من نسيان الكلام
المشهد الفني في هذه التجربة متفرد، المتداول هو مفتاح الإستدلال في النص الشعري، هذه اللغة، وحده الشاعر يعرف كيف يتسلل إليها، والأخذ بالعميق فيها، لصياغة نص تتضح فيه غنائية اللايذ المتفجرة، ورشاقة السرد كما في قصيدة (الرحالة أسموك شط العرب)، ما يؤكد أن حداثة التقنية لاتتعارض مع البساطة البليغة النقية، مما إرتفع بالقصيدة إلى الرمز الشفاف الحيوي، حيث يمسي الشط الكبيرعبر المعالجة المكتنزة رمزاً، للولادة وقد تجسدت في الطفل الذي تلده أمه على ضفاف نهر بين نخل ورمان.
في الحركة القصصية المقتصدة في قصائد (المبيت في مزرعة الخشخاش، لقطات، تابوت أبي)، وأغلب قصائد المجموعة، هناك حكايات إهتدى إليها الشاعرعبر خبرات التجربة بالتفاصيل، إذ يختلط الغموض بالوضوح، والإفصاح بالمعارضة، الموروث بالمعاصر،هنا تنبّه الشاعر إلى أن للوضوح المشعّ سلطانه في التوصيل والإشباع، فهو يعبر عن توازن، وإستكمال شروط الوعي ونضج الأداة.
في(ثالث ثلاثة)، إستحضر الشاعر ثلاثة أصدقاء:
يتركون أبوابهم مفتّحة/ لأن اللصوص لايسرقون الكتب../ ولأنهم الأقرب إلى الله / فقد صاغهم من رحيق وعنبر
في القصيدة التي أحببتها،عالم من الإلتقاء، يسكن اللايذ فيه، مستظلاً بأحلامه الجميلة، وفي غربته يخطر له أن يتخطاه إلى آخر، العلاقات تقطن في دمه وأعماقه، ورئتيه، فليس بإمكانه أن ينفصل عنها.
يذهب اللايذ في ممارسة التجريب الشعري، عبر الصورة الملتبسة، الغامضة، صورة الفجوة العميقة، الواسعة، والتأويل الحرالمفتوح، وهو ما يجعل النص أقرب إلى اللامعقول:
منذ أن مات أبي/ وأنا أحمل تابوته على ظهري/ وأطوف به في الحواضر/ وهو يقف معي دائماً وأنا أقف أزاء السبورة/ لا أحسّه بوطأة أخشابه ولا بوخز مساميره/ بل أحسّه خفيفاً ليناً/ كأنه صندوق من الفلين
تبدو طاقة الخيال الفسيح كامنة في قصيدة (دنانيري الملكية)، تمنح الشاعر التوتر في إبتكار المجاز والإستعارة، لتحقيق الإثارة والإدهاش:
وقفت على دكان/ لرجل يشبه القنفذ/ يبيع الملابس المستعملة../ سألته عن كفن من الحرير الكشميري/ أجابني على الفور: تجده في سوق الهرج
ثم يذهب إلى الحلم يأخذه لمدينة بعيدة، لم تطأها الأقدام، تسكن خلف أسوار العالم: الناس هناك بلا أسماء ولا ألقاب.
في بعض قصائده إشارات للتابو والمقدس، تناولها الشاعر هامساً على نحو سردي، وظّف فيه تقنية المحاورة وصولاً إلى غاية القصيدة:
في باب الجامع تصطف أحذية المصلين/ مثل كراديس من الجنود تدعوني إلى الصلاة.
ويلجأ اللايذ إلى تقنية الإنزياح في تغيير نسق التعبير المتوقع المعتاد، إلى نسق آخر يؤدي إلى دلالة مخالفة في عدة قصائد:
الحانة هادئة / النهر في النافذة يجري من غير إكتراث.
أما مياهك التي ظلت تسافر في القرون
القراءة المتأنية التي تحاول أن تلتقط الخيط الداخلي لعالم النص، يمكنها الوصول إلى رؤية ما يوحّد بين التفاصيل، العنوان ذاته يحمل تداعياته ومدلولاته الرمزية (بيدها تسقيني أكواب البابونج)، اللايذ كما يبدو، قصد حثّ المتلقي للبحث في رمزية عشبة البابونج، كما تؤكد النصوص المسمارية، التي نقشها سكان بلاد الرافدين في الفخاريات والمنحوتات الجدارية والمسلّات الملكية، وعلى أدوات الزينة والحلي.
يشير الشاعرإلى جاذبية الأمل والآخر والعقل، هي على أشدها هنا، كذلك جاذبية اليأس والأنا والحلم والحسّ، لا نهاية مطاف، لا خلاص، لا مهرب، فما زال الشاعر يبحث بصدق في عالم من الرياح والتجاذب والتمزق، سيظل بلا شاطيء، الأزمة في أنه موجود، وفي أنه شاعر.