ستار كاووش
لم أكن أتوقع إن بيت الفنان روبنز واسعاً لهذا الحد، لذا قمتُ بين حين وآخر بإختيار واحدة من لوحاته المهمة والجلوس على الأريكة التي تُقابلها، للإستراحة والتأمل. وهكذا مرَّ الوقت بمتعة وإنسيابية في هذا البيت الذي تحوَّلَ الى متحف مهم في مدينة أنتفيربن البلجيكية.
هنا تحسستُ عن قرب مكانة هذا الفنان الإستثنائي الخالد، الذي إنطلقَ تأثيره من المرسم الموجود هنا وملأ المدينة التي عاش فيها وإمتَدَّ الى كل البلد الذي ولدَ فيه، ثم عَمَّ شعاع تأثيره كل العالم، حتى يكاد لا يخلو متحف مهم من أعماله التي تشبه معجزات ملونة. كان روبنز عبارة عن مؤسسة عظيمة للفن، أو بمثابة أكاديمية مهمة تنتج الرسم وتطور تقنياته، وكان الفنانون يتسابقون للتعرف عليه والوصول الى مرسمه الشهير -الذي وقفتُ وسطه اليوم- للتعلم منه والعمل معه، حيث كان يستقطب الكثير من الرسامين من أصحاب المواهب العالية، لمساعدته في إنجاز لوحاته، ويكلفهم بمهمات عديدة تتعلق بإنجاز الطلبات المستمرة على أعماله، فكان لديه مساعدين متخصصين برسم الحيوانات، وآخرين برسم الطبيعة والزهور، وغيرهم يقومون بوضع الألوان الأساسية لخلفيات اللوحات، وبعضهم تَخَصَّصَ بتأسيس الطبقة الأولى من ملامح الوجوه، فيما يمهد له آخرون الألوان الأساسية للملابس، وبعد أن يقوم مساعدوه بدورهم، يأتي روبنز ويضيف الطبقات واللمسات النهائية لِلَّوحات ويُكملها مع التركيز على وجوه الشخصيات وبعض المناطق التي تحتاج لأستاذ كبير في الرسم. وفي حالات معينة كان روبنز يرسم اللوحات كاملة بنفسه من البداية الى النهاية، ويحصل هذا الأمر حين يأتيه طلب من شخصية مهمة. وهذا ما يبرر رسم روبنز لهذا العدد الهائل من اللوحات التي يصعب إنجازها بعمر الانسان الطبيعي. وهذا ما يُعزي أيضاً عدم إكتفاء أغلب المتاحف المهمة في العالم بلوحة أو بضع لوحات من فنه، بل لديها قاعات كبيرة خُصَّصَتْ لأعماله. كل ذلك جعل روبنز يفرض سطوته على عصر كامل ويصبح أحد عباقرة فن الباروك وأهم رسامي جنوب هولندا (الآن بلجيكا). بعد جولة بين رائحة الجدران المغطاة بطبقة من الجلود المزينة بزخارف تشبه الريليفات، وعبق المكان، أشعر وكإني قد عدتُ بآلة الزمن أربعة قرون الى الوراء، أتطلع الى الأرائك وأزياء الموديلات التي رسمها وأنظر الى القبعات التي زينها الريش، والملابس الموشاة بالدانتيل، أرفع رأسي للسقوف الخشبية القديمة، ثم أتأملُ المواقد التي مازالت على حالها، فشعرتُ بأني قد أصبحتُ جزءً من المكان. حتى أغطية الطاولات بلونها القطني الأبيض مازالت مصففة بأناقة فوق بعضها، في غرفة صغيرة بجانب غرفة النوم، وكإن مدبرة المنزل قد تركتها تواً وإنشغلت بإطعام الأطفال. أكملتُ جولتي بين سحر القرن السابع عشر، لأصل الى سرير روبنز الذي كان ينام عليه، وبجانبه الموقد الذي عُلقتْ فوقه لوحة رسمها لأحد أطفاله. وقفتُ أتأمل السرير المصنوع من خشب البلوط، والذي يستقر على أرضية من البلاط الأسود والأحمر الفاتح، سرير مرتفع جداً كإنه غرفة صغيرة بثلاثة أضلاع أو ماكيت مُصغَّر لصالة مسرح، غُطيت أضلاعه الداخلية بقماش أصفر، بينما تُغلق واجهته ستارة حمراء. وأنا بدوري أغلقتُ ستارتي أيضاً ووصلتُ لنهاية زيارتي لهذا البيت الذي كان وما يزال عبرَ قرون من الزمن، علامة أساسية في ثقافة وابداع وجمال هولندا وبلجيكا معاً. نظرتُ الى الباحة الخلفية من خلال الزجاج المعشق بالرصاص، وفتحتُ الباب المؤدي الى الحديقة، لتنفرج أمامي فسحة واسعة مليئة بالزهور والممرات والأرائك. والتماثيل القديمة. جلستُ على واحدة من الأرائك، متطلعاً الى حنفية الحديقة التي بدت مثل تحفة فنية، وتخيَّلتُ يد روبنز وهي تمتد نحوها لجلب الماء لزهور الحديقة، وكأني أعيش واحدة من لحظات العصر الذهبي في الأراضي المنخفضة. لقد صمَّمَ روبنز هذه الحديقة بنفسه، وجعلها مكاناً للإستراحة، حيث كان يعطي التعليمات لمساعديه المنشغلين بتهيئة اللوحات له، ثم يترك المرسم المكتظ برائحة الألوان وزيت الكتان، ويخرج الى هذه الحديقة لإستعادة بعض الإسترخاء وسط الزهور والضوء الذي يُذَكِّرَه بنساءه الورديات بأجسادهن الممتلئة ووجوههن البضَّة مثل الحليب، يغيب بين ممرات الحديقة لا شيء يشغله سوى لوحة جديدة في ذلك المرسم المليء بالمساعدين الذي يتهامسون فيما بينهم عن سر عبقرية هذا الأستاذ ومكانته العظيمة وهو يحوِّلَ العتمة الى ضوء ويمنح الألوان ترفاً قلَّ مثيله، في لوحات ستبقى حيَّة الى هذه اللحظة.