لطفية الدليمي
كلُّ من عاش في بغداد أيام نهوضها الحضاري في العقد الخمسيني والستيني والسبعيني من القرن الماضي يعرفُ ماذا تعني بغداد حينذاك: منازل واسعة جميلة رغم معمارها البسيط غير المتكلف، حدائق واسعة تعبق في أمسياتها أشذاء الشبّوي وقدّاح الحمضيات، ويظللها نخيلها الشامخ الذي يمنحُ بغداد أصالتها وترفها المقترن بذائقة ساكنيها وقدرتهم على مواجهة متطلبات الحياة بكفاءة وتمكّن.
لم يكن البغدادي – والعراقي بعامة – كائناً منغلقا منطوياً في مساحة بيته الصغيرة، مثلما لم يكن غاطساً في زمانه الشخصي المحدود والذوبان الكامل في متاهة تبعده عن النسيج الثقافي لبغداده الأنيقة. كان المرء جزءً من ثقافة جمعية راقية مشهودة، وكانت شبكة علاقاته الوظيفية بالحياة محبوكة مع نسيج الواقع الذي يعيشه. هل نتخيلُ مثلاً أن يتقبل البغدادي في ستينيات القرن الماضي العيش وسط أكوام القمامة حتى لو كان بيته مفرط النظافة في داخله؟ هذا أمر عصي على التصور ولن نجده حتى في المناطق الشعبية محدودة الدخل حينها.
كان من النتائج الكارثية الخطيرة للحروب الحمقاء والحصار أن إنزلق العراقيون إلى قاع الحاجة البيولوجية البدائية وانشغلوا في إدامة متطلبات الحياة، وفي مثل هذه الأجواء سيكون من الطبيعي أن تتراخى الرؤية الجمالية ويتراجع الاهتمام بالبيئة وينحلّ الى حدما نسيج الثقافة الجمعية المشتركة التي تجمع سكان بغداد مع محيطهم الأوسع. صار البغدادي ينطوي بالتدريج على ذاته في صندوق يضيق به وإن كان لم يزل غير مكتمل الإقفال. وبرغم كل ذلك ظلت بغداد نظيفة وعلى قدر ملحوظ من الأناقة رغم قسوة الحروب وضنك الحصار، وبرغم الحاجة والفقر ظل المواطن قادرا على الإشتباك الجمعي بالنسيج الثقافي العام ليعوض عن شحة الحاجات الأولية باهتماماته الثقافية المتاحة ويحلم بالخلاص والمستقبل الافضل. وبرغم كل القيود والمآسي والحرمان؛ لم يتعدّ المواطن على الفضاء العام لمدينته ولم يتكوّر في صندوق منزلي صغير موصد. لاننسى بالتأكيد سطوة القانون وصرامته، فالحياة لا تمضي قدما بغير قانون يُطبّقُ بصرامة على الناس. حينها لم يكن أحد ليجرؤ على مصادرة أرصفة الشوارع أو الحدائق العامة أو التجاوز على شبكات المياه والكهرباء.
ما الذي حصل بعد احتلال العراق في 2003؟ صارت المعادلة السائدة هي التالية: نحن – الطبقة الحاكمة – سنأخذ موارد النفط ونعطيكم بقدر محسوب، وعليكم أن تتكفلوا بعيشكم وتدبير خدماتكم. تخلت الدولة عن جميع إلتزاماتها تجاه المواطن، وخسرت تراث العقود السابقة عندما كانت دولة رعاية إجتماعية في جوانب محدّدة من الحياة (توفير قطع أراضٍ، منح قروض من البنك العقاري، تعليم مجاني،كهرباء ومياه ودواء مدعوم إلى حدود كبيرة. )، ثم تحوّل العراق إلى ساحة شرسة لحروب المافيات المالية. سيرد بعضهم بأنّ العراق غادر عصر التطبيقات الاشتراكية ودخل عالم السوق الحرة والرأسمالية. هؤلاء جاهلون، أرأيتم حالة شبيهة بالوضع العراقي المتردي في الولايات المتحدة الأمريكية قلب العالم الرأسمالي؟
لم يعد البغدادي والعراقي عامة يهتمُّ لشيء أو بشيء خارج نطاق ملكيته الخاصة ومنزله الصغير الموصد. لم يعُد جزءً من نسيج ثقافي واسع. أصبح كلّ مايهمّه تشييد منزل يكسوه المرمر وامتلاك سيارة فارهة. وصار بيته حيّزه المغلق وأضحى ارتياد المولات والمطاعم بديلا عن ارتياد الفعاليات الثقافية المغيّبة وماعاد معنيابنظافة الشارع والرصيف. لنكن شجعاناً ونعترف أنّ أعداداً كبيرة من المواطنين فقدت حسّها الانساني التشاركي وذائقتها الثقافية وانصرفت للتغالب على المنافع المالية والتباهي بالاستهلاك المفرط.
إنها خطة لئيمة أن تمنح السلطة أموالاً لبعض الناس وتتركهم يعبثون بالبلد على هواهم يخرّبون ويشوّهون عمارة المدينة ويدمرون تراثها ونسيجها الحضري. لايهم أن يشربوا مياهاً ملوثة ويتنفسوا هواء مسموماً بدخان المولدات الأهلية ويأكلوا أطعمة فاسدة استوردها تجّار فاسدون من دول قريبة أوبعيدة. هذا لايهم. المهم أن يكسبوا المزيد و المزيد من الأموال. فهذه شطارة تتطلبها ثقافة التدجين من جانب وأخلاقيات التغالب وغياب حس المواطنة من جانب آخر.
انحدرت كثرة من العراقيين نحو سلوكيات التربح مع إهمال بيئتهم ومدنهم وتنمية شخصياتهم، والمؤلم أنّ هؤلاء صاروا يتوهمون أنفسهم ملوكاً متوجين على الآخرين بثرائهم الفاحش ونمط استهلاكهم السفيه، لجهلهم كيف كان العراقيون يعيشون ويسلكون في بغدادنا ومدننا التي نعرف.
بغداد جديرة بماهو أفضل من سلطة لاتوفر لها أدنى الخدمات،وتستحق بشرا أفضل من طفيليين يصادرون أرصفتها ويسرقون حدائقها ويلوثون هواءها ومياهها ويعجزون عن رفع القمامة المتكدسة أمام دورهم التي غاب عنها الهواء والشمس بعد أن حولها الاتجار بالارض الى علب كبريت خانقة.