ناجح المعموري
تابعت الفنان المبدع عاصم عبد الأمير منذ زمن، وتحاورت معه وكتبت عنه، وظلت علاقتي قريبة معه وعايشت اشتغالاته في مشغله وخصوصاً تجربته الجديدة التي اعادت استثمار وتوظيف تجربة الواسطي،
وفعلاً كانت انجازاته تمثل امتداداً لبعضها وكأنها سردية ملحمية أو كما قال الشاعر أوكتافيو باث شمولية. والابداع الشمولي الذي ذهب اليه الفنان تمثيل متخيّل يفيض بما هو جديد، لكن عبد الأمير لا يطمس الأصول التي تغذت منه، بل ظلت متحركة تومئ للعناصر التي دخلت مكوناً جوهرياً في تجربته الفنية الابداعية. وهو بهذا الاستثمار والمحافظة على ذاكرة الماضي متجسداً بمرويات ومحكياته، يعلن نوعاً من المباهات لأنه تجاور بوعي ومعرفة على تمظهرات فنية استحقت الحضور وتوفرت على سيرورات لها ارادة البقاء والمحافظة على الجماليات التي استدعاها الحاضر، حتى تظل حاضرة للابد، بمعنى تستولد مستقبلها وقبل هذه الملحمية / الشمولية هي من خصائص التجارب الشعرية التي تحدث عنها أوكتافيو باث تخيلات الفنان عاصم عبد الأمير وتحاوراته مع تنوعات تجربة الواسطي، تعيد تحركات الماضي من خلال سردياته والعودة لتجربة الواسطي سنواجه السيرورة والجدل الممتد نحو الأمام وكأن عاصم عبد الأمير يروم التلميح معتمداً على شعرية الألوان بأن الفن والأدب يمثلان اليومي الذي دائماً ما يتجسد بوصفه محكيات ملونة.
عاصم عبد الامير منشغل بالسرد التشكيلي وهو أحد عناصر تجربته المتميزة والتي كانت منذ لحظة الابتداء مع جماعة الأربعة وحتى الآن مغرمة بالسرد ومهوسة بالجزئيات الموزعة وسط الوحدات الداخلية للوحاته، بحيث صاغت ملمحاً بنائياً اضفى التفرد على ما انتج، على الرغم من وجود تجارب اهتمت بالتداخل الغرائبي. وظلت تجربة عاصم في خلال سيروراته المتوترة بشحناتها البنائية ذات صلة غير مفارقة لما حاز ماضياً , الا انه نجح بصيغة تكرر الحكي والتوجه الى الحاضر والاسراع الى المستقبل. وما يثير المتلقي بمنجزات هذا الفنان والمفكر، هو التوفر على فراده الامساك بالتوازن واختلاق التكوينات المروية والمكاشفة مع بعضها ومانحة تشكلا فنياً مثيرا للاندهاش والممسكة بالخلق الجديد على الرغم من فراده عاصم وما يتمتع به من ذكاء بمنحه ما يشبه اللعبة ــــــ وهذا مصطلحي الخاص ــــ ليصنع ما يجعل الوحدة الجزئية ذات توسع التنوع الدلالي. وكما شاهدت ما توفر لديّ من ذاكرة محفوظة تمثل تجربة عاصم، اعيش لحظات هزازة للذاكرة والتخيلات التي تمنحني معرفة بروحه الملونة وأجد في كل ما استعيده بوصفه ماضياً أو سرداً سابقاً، بأن هذا الفنان لا يتنكر لروحه وحياته الماضية مع كل محكياته وملوناته وزحمتها بالرموز والعلامات ذات المفاجآت المبتكرة لأن الفنان به من خصائص الشعر ولا يبتعد عن الذي كان ماضياً له ودائماً ما أتذكر مقولة « اليوت « التي أكدت على أن تكرراته لشيء سبق أن قاله سأقوله ثانية.
أأقول ثانية؟
الازمنة بمحكياته وقائع لائذة في خزان الذاكرة وتحتفظ بما يومئ للوحدات الجوهرية المستعادة من المحفوظ والراضي باستعادة الحياة عبر لحظاتها القوية والتي تؤشر على رضا عاصم عبد الامير باستعادة الذي له مستحقات الاستحضار وهو لا يعني بذلك فقير الملكية المختزنة بالذاكرة، وإنما هو يعشق التقاط المروي مرة ثانية ويتشكل بما هو مضاف بوصفه جديداً أو مبتكراً، وهذا التكرار يضفي شمولية / ملحمية على اللوحة وجزئياتها العديدة والمتعاشقة مع الثانية والثالثة وكأن كل عمل يمثل مدونة ذات حيازات كبرى ويكون لها حضور مشحون بالإيقاع اللوني بوظيفة موسيقى الشعر وللتكرر الممثل لأهم ملامح عاصم البنائية ينطوي على ولع بما تعيشه الطبيعة والوقائع وهو بذلك يمسك بذيول الزمن الممتد مع سيرورة المتخيلات ويتعامل معها باعتبارها تعبيراً عن شعرية التشكيل ومحفزاته اللونية وطاقاته الرمزية. وكل هذه الملاحظات منبهات لما اتصف به عاصم من شعرية والتقاط جماليات مفقودة أو غير مكتملة، وتعاود رغبتها للاكتمال كما هو حاصل مع الشعر في فترة البداية الحداثية التي غذتها المناهج المعنية بسوسيولوجية وفلسفة الفن التي رسمت ملامح جديدة للتجارب التي ادركت الوقائع المعقولة والغرائبية بوصفها متضادات غير متنافرة، بل تمنح ما تقوى عليه للآخر.
عاصم عبد الامير خصائصه شعرية وألوانه مبتكرة لحضورات الاسطورة متغذية برموز حيّة. الفنان يشيد بواسطة الالتقاط والتجسد ويخلق ممتداً الى اللامرئي والمرئي بين الفكرة والشيء، بين التجريد والموضوع، فالحب والحسد والغضب عواطف تتحول بفعل اللغة الى أشخاص، ولكنهم يتخيلون وليسوا أشخاصاً من لحم ودم، والتشخيص ـــــ التجسيد ـــــ لحظة من مسار « القصيدة ــــ القصة ــــ الرمزية ـــــ والتجسيدات المختلفة ــــ الحب والحسد والعفة والعدل والغضب وضبط النفس ــــ تتحدث في ما بينها كما يفعل الرجال والنساء، وكالرجال والنساء يتوحدون ويتفوقون ويشن واحدهم الحرب على الاخر. ويعقدون معاهدات سلام. إلا أن هناك فارقاً. فأياً كانت الاشكالات التي تأخذها الشخصيات الرمزية فإنها تصبح أشكالاً، بل تظل علامات أن جوهر المثلث شكله الذي يمكن إحالته الى تناسب حسابي أو رياضي. ويمكن المثلث الذي نراه مرسموماً في كنبة وسطية لم يعد شكلاً. إنه علامة على الالوهية / أوكتافيو باث / الشعر ونهاية القرن « صوت الآخر « / دار المدى / 1998 / ص16.