حيدر المحسن
صفّر القطار، وشعرت العجوز بأنه ثمة خطأ في قلبها وظلمة في داخله. كانت تحاول أن تظهر أقلّ تأثّراً ممّا هي عليه. كانت الشّمس قد أربكتها طوال النّهار، وهي تشعر بالضّياع الآن أكثر في هذا المكان الموحش.
«لا أستطيع أن أصدّق! قدماي تقفان هنا، إنما كلّ جوارحي تعيش هناك! ».
كانت العجوز تكلّم ابنتها، متظاهرة بالجَلَد، وارتعاش صوتها يخونها: «من محطة إلى محطة، ومن مطار إلى مطار! ومن جديد: الدّموع والملل والحياة المقرفة والنّدم! كم بحراً يحُولُ بيني وبين بيتي، بيني وبين الجنة! ».
ابتسمت الابنة بتكلّف ظاهر، وكانت أمها تكلّم نفسها، ووجهها يفيض بالتعاسة:
«كأنه حلُم... نعم... نعم... حياتنا كلّها حلُم».
كانت محطّة القطار مكتظّة، القادمون يركضون بعربات الأمتعة، والمغادرون محاصرون بفكرة الرّحيل، يخفي وجوههم صمت الشّارع والرّصيف والسّقائف الحجريّة.
«كلّ شيء صار غريبا عندي وكلّ شيء تغيّر، ولم أعد أرى شيئاً من حولي غير الطّائرة والقطار. كلّ قطار يصل يذكّرني بمنفاي، وكلّ قطار يبتعد يشعرني بالغربة بعيداً عن وطني. كم يسعدني لو تذكّرتني هناك حجارة واحدة من أحجار الطّريق... حصاة... نملة... ذبابة! سبعون عاماً، يا لغرابة الأمر! كيف مضت السّنون على جناح السّرعة؟ من يصدّق؟ كلّ شيء هناك رحيم حتى حجارة الدّرب».
«يظنّ الجميع أنك جُننت! ما هذا الهراء الذي تقولينه؟ » صاحت الابنة بها بغطرسة وبصوت قويّ، وأكملت:
«وتحدّثنا في هذا الأمر مراراً... مئة مرّة... ألف مرّة... مليون مرّة... أكثر... ألن ننتهي من هذا الموضوع أبداً؟ نحن لا نترك وراءنا أحداً يرغب في بقائنا. أليس كذلك؟ ألم تكن ورقة التّهديد مع الرّصاصة في المظروف واضحة؟ ».
أحزنتها لهجة ابنتها وطريقة كلامها، وكانت تبدو ضائعة، مستنفدة في ولهها، إنها لا تريد أن ترى شيئا في هذه المحطّة الموحشة الباردة، فكل مكان في المنفى هو المكان ذاته.
«نعم! أنا مجنونة بذلك التّراب! مجنونة حقّا! إنني مجنونة وحقّ الله! ».
«إنه ليس الجنون يا أمّي، بل هو الخرَف! ».
زعقت الابنة بمزيج من الانبهار والشّفقة. تهمّ الأمّ بالاعتراض، ولكنّ ابنتها لا تدع لها الفرصة. صرخت غاضبة:
«أيتها الشّقيّة! أيّتها البائسة! ما الذي يجعلك تحنّين إلى الذلّ والبؤس والقذارة؟ ! ».
وكانت الابنة تشعر أنها انتصرت للحق. كان الوقت هو الغسق، ولكن الظّلمة لم تلفّ المكان بعدُ. وجّهت العجوز أنظارها إلى نوافذ القطار المقترب، واستولى على قلبها هلع بالغ. الابنة تتهيّأ للصّعود، الابنة متعجّلة للغاية، والأم لها مظهر بريء، على وجهها تعبير غريب يعرب عن قلّة الحيلة أكثر من الغضب أو الحزن. شعرت في تلك الوهلة أنها في عزلة قاتلة، وفي داخلها ألم لا متناهٍ. كيف يحدث هذا الأمر؟ كيف تجري الأمور الجليلة بمنتهى البساطة دون أن تتزلزل الأرض في كلّ مكان؟ يا إله السّماوات! هناك بالتّأكيد غشّ وتزييف في كلّ شيء في الحياة. كأن كلّ ما موجود في الواقع ليس سوى وهمٍ! وهمٍ أكيد وحقيقيّ!
استغرق البحث عن المقعد بعض الوقت، وجلست المرأتان أخيرا في مقعديها، وانتبهت الأم إلى شدّة الضّوء، وكان جفناها يحترقان بوهجه. يا ربّ أعطني المقدرة والشّجاعة على التّحمّل! أغمضت عينيها، وأخذت تفكّر بكلّ ما جرى لها طوال الشّهور الأخيرة، وكأنه لم يحدث في الحقيقة، وجرّبت أن تلتجئ بخيالها صوب مدينتها البعيدة. ها هي ترسل روحها إلى هناك، ها هي تصغي إلى صمتِ الأشجار والزّهور في حديقة بيتها، وتتأمّل حجارته، وتتلمّس براحتيها بابَه المصنوع من الخشب، والمزيّن بالنقوش، وكان مواربا، وحقيقياً تماماً. فتحت حقيبتها واستخرجت منها المفتاح. دلفت إلى الداخل، واجتازت الرّواق القصير، من هنا غرفة المعيشة، السّتائر زرقاء موشّاة بالذّهب... وهي تدور في بيتها، كانت العجوز تحلم وتبكي وتتذكّر كلّ شيء. كلّ شيء...