ستار كاووش
هل سمعتم بمتحف الشوكولاته؟ نعم هذا هو إسم المتحف الذي أود أن أحدثكم عنه اليوم، والذي زرته بمدينة أنتفيربن البلجيكية، متحف فريد من نوعه في هذا البلد الذي يُعتبر من أهم بلدان العالم في صناعة الشوكولاته. خطرت في ذهني زيارة هذا المتحف فورَ صعودي القطار عابراً الحدود الجنوبية لهولندا.
فقد إنتابني الفضول وقتها للتعرف على تفاصيل هذا المتحف والإطلاع على المعروضات والأفكار وكل المحتويات التي جعلت من هذا المكان شيئاً نادراً وجميلاً تتباهى به الثقافة والشارع البلجيكي على حد سواء. لحظة خروجي من محطة القطار بانَ المتحف الذي يفصله عن المحطة دقيقتين سيراً على الأقدام. بناية تبدو كإنها صُمِّمَتْ من قوالب شوكولاتة مرصوفة مع بعضها بطريقة جذابة، وما أكد هذا الإحساس هو لون البناية الذي تدرج بين تدرجات اللون البني والأصفر. أخذتُ تذكرتي من المرأة التي ذكرت لي بعض التعليمات والتفاصيل السريعة المتعلقة بالمتحف، بلغتها الهولندية ذات اللكنة التي تشبه لكنة سكان جنوب هولندا، ثم مدت لي جهازاً صغيراً يشبه التلفون يمكنني من خلاله سماع معلومات عن كل جانب وتفصيل وملمح في المتحف، حيث توجد قرب كل واحد من المعروضات كارت إلكتروني صغير جداً، وبمجرد أن أمرر قربه الجهاز الذي معي، ثم اقربه من اذني، حتى أستمع لكل التفاصيل. هنا تعرف كل شيء عن هذه المادة السحرية التي دخلت في صناعات الأغذية بآلاف الأشكال والأنواع والطرق غير المتوقعة. وما عليك سوى تتبع الصالات بدقة وحسب أرقامها كي تعرف بشكل جيد قصة وسحر الشوكولاتة وتمضي مع عالمها الفريد، حيث تمتد الرحلة إبتداءً من أشجار الكاكاو المليئة بالثمار، حتى آخر نوع ومذاق من الحلوى. هنا رأيتُ كيف تُجنى محاصيل الكاكاو في الكونغو أو ساحل العاج وكيف تُنقل بشاحنات خاصة ثم تجفف جيداً وتْرسل بأكياس الجوت نحو مصانع بلجيكا، كي تُنتَج منها أشكالاً وأنواعاً لا تُعَد ولا تُحصى. وما أثار إنتباهي هو إن جمال هذا المتحف ليس فقط بمعروضاته المليئة بالجاذبية، بل في الطريقة التي رُتبتْ فيها المعروضات، وفي تدفق المعلومات وإنسيابية التفاصيل التي لا تخلو من روح المرح والدعابة التي تعيدك الى قصص تان تان المصورة التي تعكس دعابة هذا البلد الجميل. هنا عرفتُ إن المادة الخام لا تساوي الكثير إن لم نصغها بطريقة جيدة، فعظمة المواهب الحقيقية هي الإمساكِ بمادة موجودة ويعرفها الجميع وتحويلها الى شيء نادر وممتع وجميل. هكذا حولت بلجيكا ثمار الكاكاو الى معلم سياحي وإقتصادي عظيم وجعلت العالم بأسره يبحث عن الشوكولاته البلجيكية الشهيرة. ونحن في هولندا نعرف ذلك ونتحسسه بوضوح، وفي كل مرة يذهب أحد الأصدقاء أو المعارف الى الجارة بلجيكا، يوصيه الجميع بجلب شيئاً من الشوكولاتة البلجيكية معه. لقد أثَّرَتْ هذه القوالب البنية الصغيرة على إقتصاد البلد كاملاً وجعلتْ الناس تأتي الى هذه الأرض كي تأخذ معها بعض القطع من هذه الحلوى التي مرت صناعتها في بلجيكا بمراحل كثيرة طوال بضعة قرون، لكن الإنتقالة الكبيرة التي حدثت لهذه الصناعة قبل مائة سنة تقريباً كانت بإبتكار حشو قطع الشكولاته بالجوز وبعض الأطعمة الأخرى، وساهمَ ذلك بزيادة شعبيتها كثيراً، ثم جاء أعظم حدث في هذه الصناعة، حيث تمَّ إبتكار تذويب الشوكولاته وجعلها سائلة كي تُنقل بصهاريج كبيرة للمصانع، لتصبح الشوكولاته طيعة وسهلة النقل ويمكن التحكم بنقل كميات كبيرة، إضافة الى سرعة صبها في ملايين القوالب. قبلَ أن أنهي جولتي في هذا المكان الذي إمتلأ برائحة ثمار الكاكاو وعطر الشوكولاته، نزلتُ من سُلَّم لولبي نحو الصالة الأخيرة التي فاح منها عطر الشوكولاته أكثر الصالات الأخرى للمتحف، وفي هذه الصالة بإمكانك تذوق كل أنواع الشوكولاته مجاناً، حيث إستقبلتني عند نهاية السلم فتاة جميلة، وطلبتْ مني مع إبتسامة لطيفة أن أتناول ملعقة من الصينية التي بين يديها، ثم أشارتْ الى صفين من المكائن التي تنتج الحلوى إصطفت على جانبي الصالة، قائلة إن بإمكاني تذوق كل الأنواع وبالكميات التي أرغب بها، وطلبتْ مني أن أضع الملعقة بعد إستعمالها في مكان مخصص لذلك. وهكذا وضعتُ الملعقة تحت فتحة إنبوب بحجم القلم ثم سحبتُ عتلة صغيرة على جانب الجهاز، فخرج أول نوع من الشوكولاتة وملأ الملعقة، وهكذا مررتُ على كل الأنواع، وبعضها كررتها أكثر من مرة لأن طعمها لا يُقاوَم، مثل تلك التي بطعم الكاراميلا التي عدتُ إليها بضع مرات. في النهاية مررتُ بالمتجر التابع للمتحف، وفعلتُ ما يقوم به الهولنديون عادة، حيث إشتريت علبة شوكولاته فاخرة، لآخذها معي لجارتي يانكا التي تحب هذا النوع من الهدايا، وهكذا أتخلص من نظراتها المُعاتبة لأنها تعرفَ بأني في زيارة الى بلجيكا.