شاكر لعيبيتفقد الثقافة التنويرية العربية، بموت المفكر والكاتب المصري نصر حامد أبو زيد يوم الاثنين 5 تموز 2010، علما من أعلامها ومفكرا من مفكريها العقلانيين السائرين على نهج المعتزلة وابن رشد، مهما اختلفنا حول هذه النقطة أو تلك في فكره.
لقد تشبث بالحرية، بذلك الخيار الذي لم يتخلى عنه معتزلة العراق أمام فكرة الجبر الطاغية. لم يتأرجح الرجل أو يتذبذب أو يتنكر لأعماله، متعرضا للتشهير والتكفير والطرد. ومثل المعتزلة الذين وقف ضدهم فقه الدولة الرسمي، وقفت المؤسسات الدينية النافذة في مصر ضده متمادية إلى درجة تطليقه من زوجته، أستاذة الأدب الفرنسي بجامعة القاهرة ابتهال يونس. ومثل الأحرار اختار الذهاب إلى هولندا دون التراجع عن خياره الحر. أمام الجمود في تفسير النصوص توقف عند رحابة التأويل، وأمام القبول بالمسلمات اختار أشغال العقل والتفسير الموضوعي. فكتب عارفاً ومن داخل الحرم التراثيّ أعمالاً أساسية منها "الاتجاه العقليّ في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة" 1996، و"فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربي" 1993 و"مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" 1998 و"الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" 2007 و"نقد الخطاب الديني"ط2، 2003. فجّر الكتاب الأخير خاصة جدلاً واسع النطاق بين مؤيد ومعارض لاستنتاجاته، لم يتوقف أبداً حتى في لحظة إعلان وفاة المفكر المصري حيث انشطر جمهرة من القراء العرب بين مقدم لروحه الإجلال والتقدير وآخر لا يرى فيه سوى شبح للكفر الصريح والتشكيك الفادح بالنصوص القدسية.أليس مثيرا أن نرى أن سؤالات المعتزلة عن الحرية في الاختيار، فالإنسان مخير على حد تعبيرهم وليس مسيراً، ثم مشكلة خلق القرآن إزاء الجبر وقِدَم النص، وما يتفرع عنها من معضلات حاسمة، هي مأزق كل من يتناول هذه الموضوعات وفي جميع عصور الإسلام، وهي بالضبط من قادتهم إلى مواجهات فلسفية وقمع وتهميش رغم فترة الانفتاح الذهبية يومذاك، وقادت هي عينها نصر حامد أبو زيد إلى المواجهات القاسية والقمع الشديد، كأن ثقافتنا العربية الإسلامية ليست براغبة في حل الأسئلة إلا بطمرها أو إقصاء من يتناولها. كأن الصراع على هذه الأسئلة من طبيعة تناحرية، نهائية، عليها أن تنتهي بالضربة القاضية فقط وليس بالقبول الودي بالفكر الآخر.يبدو لي مصير نصر حامد أبو زيد (ولد عام 1943) استعارياً ورمزياً، فهو يلخِّص في شخص واحد تجربة جيل من المثقفين العرب الذين تعرّضوا بالمستوى ذاته من الاضطهاد الفكري والترهيب بجميع أشكاله إلى الطرد من الحدائق الاصطناعية للدولة الرسمية العربية وأيديولوجيتها، قومانية ودينية على حد سواء، فاختاروا المنافي أيضا وتجرّعوا الأمرَّين، وبسبب شروط المنافي وقسوتها تفتت أحيانا علاقاتهم العائلية والزوجية، وجرى تطليقهم مداورة وليس بالصراحة الفظة التي تم بها الأمر في حالته. حالة رمزية لأنها تعلن من دون تردد أن الثقافة العربية تعيش فترة صعبة منذ ثلاثين عاماً، وأن صعود الأصوليات من كل نوع توازى من الطرف الآخر بصعود أنواع الخفة الثقافية إنْ على مستوى المواضيع السائدة أو الممارسات اليومية في الصحافة والإعلام والفنون الغنائية. فترة حرجة يعبر عن وجهيها خبر تعبير انشطار الفضائيات العربية بشكل عام إلى دينية أو خليعة خفيفة، وما بينهما ثمة القليل الذي يُعتد به ويُحترم دون أن ينفي عموم الظاهرة. ها هنا بعد استعاري، فإن الجيل الذي يمثله نصر حامد أبو زيد يقع فيما يُعتد به لكن على هامش تينيك الظاهرتين القطبيتين القويتين.كان صراع الرجل صراع المثقفين المتنورين العرب المشددين على ضرورة قبول القراءة الأخرى للظواهر حتى الدينية منها، الكفيلة وحدها بإنعاش الثقافة وصيرورتها وديمومتها. قد يختلف المرء معه حول أهمية نقد الفكر الدينيّ أو تأجيله لمدى طويل، أو حتى ترك مواجهته نهائياً، لكنه لن يختلف معه في ضرورة التأويل والقراءة المتجددة للتراث الإسلامي الكبير، نوعا وكماً، ونقده من ثناياه وبأدوات معرفية حديثة. وهنا بعد آخر في حياة الرجل: كان من العارفين بالتراث، غير المستهينين به خلافاً لدعاة الحداثة والتجدّد التي تضرب صفحا عن الأصول التاريخية. وهؤلاء يبدون وكأنهم لا يعرفون أن كبار الفلاسفة والمفكرين المتنورين الأوربيين هم من أكبر قراء تراثهم اليوناني، حتى أن المطابع لا تكف سنويا عن إصدار مئات المؤلفات عن هذا (التراث)، بل كأن شعراء حداثة مزعومة لدينا يبدون وكأنهم يجهلون أن الشعراء الإنكليز أو الروس أو الفرنسيين الحداثيين المعاصرين لا يتنكرون لشكسبير أو بوشكين أو رابليه. ما زال الشافعي وإخوان الصفا فاعلين في العقل العربي بطريقة ما، سيقول لنا نصر حامد أبو زيد، مثلما ما زال امرؤ القيس والمتنبي وأبو نواس فاعلين، سنضيف نحن من جهتنا.في جميع المثقفين المتنورين العرب شيء من رمزية حياة نصر حامد أبو زيد، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الشجاعة والصرامة والشهرة.
تلويحة المدى ..فينا شيء من نصر حامد أبو زيد أو كله
نشر في: 9 يوليو, 2010: 05:03 م