طالب عبد العزيز
المدن المشوّهة، مدننا العراقية، التي نصفها تمدن زائف، ونصفها الآخر ريف مستكره ومُتنازل عن قيمته، لم تتطور منذ وضع أول لبنة للدولة العراقية الأولى. كان الريف العراقي أجمل قبل استحداث المدن الزائفة تلك، يوم كان الحطب مادة الطبخ والتدفئة الأولى،
يوم كان سوق السعف والجذوع في البصرة رائجاً، له أصحابة وتجّاره، ويباع في طول المدينة وعرضها، من المعقل الى العشار وبريهة والمناوي الى البصرة القديمة والضواحي الاخرى، بواسطة العربات التي تجرّها الخيول، والذي كان الفلاح في قرى البصرة مُصَدِّرَهُ الأول، بسبب الفائض الهائل منه، يوم كانت المدينة أكبر منتج للتمور في العالم، في المشهد الذي ما زلت أتأمله كواحد من فضائل قريتنا الصغيرة على (المدينة) الكاذبة تلك.
ظل الفلاحُ على بساطة حاله وحياته متفضلاً على المدينة، حتى زحفت عليه، فقد كان مصدر وجودها، فهو باذر القمح، وغارس الخضار والفاكهة، وبائع الحليب واللبن والزبدة، وحطابها الوحيد، الذي لولاه لما طهى ابن المدينة طعامه، ولا استشعر الدفء، ولا تنعم بما بين يديه، ولأنَّ حديث المطبخ العراقي لم يتناوله إلا القلة من كتابنا، فقد آثرنا تناول الجانب الأهم فيه، ألا وهو تحوله بدخول النفط الابيض، في الطبخ، وتراجع الحطب، مادته القديمة، بوصفها الطعنة الأولى التي توجهها المدينة للفلاح، ابن القرية، أبي وعمّي وأخي.
نحن لا نملك تاريخاً فاصلاً في التحول ذاك، لكننا نرى أن دخول البريمز، الذي يعمل بالنفط وضغط الهواء حياة العراقيين كان نقطة التحول الكبيرة. هذا الجهاز النحاسي الصغير، بعنقه الذي يشبه رقبة احدى إوزات امّي، وبرأسه المتوهج الازرق، الذي أتى به أخي الاكبر قبل نهاية شتاء العام 1965ما كنا قد سمعنا به من قبل، سمّاه (البريمز) فرددناه طويلاً قبل أن نحفظه، ظل يوقده لأمّي أياماً، قبل خروجه للعمل، حيث لم تفلح معها كلُّ وسائله التعليمية، فهو يملأ خزانه الصغير بالنفط الابيض، ويبدأ بضغط الهواء فيه، من مكبس بعتلة صغيرة، ثم يشعله، ليتحول النفط والهواء الى شعلة زرقاء، وقوية، بدويٍّ مخيف.
لم نسأله لماذا سمّي (البريمز) هذه التسمية الغريبة، لكنْ، اتضح بأنه منتجٌ، أستخدم لأول مرة العالم سنة ١٨٩٢ بالسويد، كأوّل موقد حديث يعمل بالنفط الابيض، صممه وطوره الميكانيكي السويدي فرانك ويلهلم لنكويست، الذي أطلق علامته التجارية بإسم Primusوالتي تعني (الأول باللاتينية). هل أقول بأنَّ أول آلة ميكانيكية تدخل بيتنا الطيني كانت عتلة(مفتاح الصواميل) التي تفتحُ رأس الشعلة، وتنزع المكبس، ساعة يراد تنظيفه، من الكاربون، كذلك كانت الابرة، التي لم تهتد أمّي لأهميتها بنبش الثقب، الذي يتدفق النفط الابيض منه.
أموت ولا تغادرُ روحي رائحة البيض المقلي بالزبدة، في موقد أمّي، فقد ظلت تطبخ طعامنا، وتضع قدر الحليب الى جوار ابريق الشاي، وتسخّن ماء الحمّام بنار موقدها الحطب، حتى مطلع السبعينات. والموقد ذاك حفرة في الارض، عليها حديدتان، عريضتان، متوازيتان، عرفت فيما بعد بأنها من مستهلك عربات القطار، جلبها أبي من سكراب الشعيبة، ووضعها على الموقد، لتستقر مقلاة وقدور وأباريق أمّي، ولا تقلق بشأن ما عليها من الرز والمرق والحليب والشاي، فالامر مرتب كما يجب، ولأنها كذلك، فقد بقينا نجلب الحطب لها من بستاننا الكبير، كرباً وسعفاً وجذوعاً وعراجينَ، وكل ما تلتهمه النار من اغصان التوت والعنب والرمان... في دورة صيفية سهلة، وشتوية صعبة، فقد كان شتاء تلكم الايام ثقيلاً، كثير البرد والمطر، يقتضي تخزين كمية كبيرة منه، في دارة مظلمة متروكة، لا ينوشها الضوء، ولا يدخلها المطر، الدار التي نسج المخيال الشعبي الكثير من القصص عنها، فهي محظورة على دخول الاطفال، لأنها مسكونة بالطنطل ذي العين الطولية، والعبد المُسَلْسَلْ والخضراء أم الليف.
مع كل (فضائل) البريمز هذا لم تستغن أمّي عن موقدها الحطب، حتى تزوج أخي الاكبر، وتكفلت زوجته بشؤون المطبخ، غير أننا عدنا اليه، في سنوات الحرب والحصار، لكنها عودة أخيرة يائسة، فقد هُدَّ الموقد، تداككت عليه الحيطان الطين، وشُيّد مكانه غرفة من الطابوق، سُقّفتْ بالاسمنت والحديد، الذي هو الآخر، دخل البيت العراقي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. وحتى وقت قريب، ظلت الكثير من الاسر البصرية تتردد في استخدام البريمز(لمخاطره) فهو مخترع جديدٌ يومذاك، لم تكمل دورة استخدامه، وتتهيبه سيدات البيوت، اللواتي اعتدن على طهي طعامهن على نار الحطب(الآمنة) يوم كانت غالبية مساكنهن من القصب والسعف والجذوع.
إذا كان البريمزالسويدي قد أحدث النقلة النوعية الأولى في بيتنا فقد كان طباخ النفط الاسود أو الازرق بالزجاجة الجانبية(طبّاخ أبوعين) النقلة الثانية، فهذا جهاز لا يعمل بضغط النفط والهواء، إنما بانسياب النفط من الزجاجة، مستودع النفط، عبرانبوب حديدي، الى الفتيلة القطنية، التي تتوهج بطيئةً بادئ الامر، ثم تتحول الى لهب صامت أزرق، يقوم وبكل جدارة، مقام موقد الحطب، وإذا كنا به قد تحررنا من مهمة جمع الحطب، وإدِّخاره، وانتقاء اليابس منه، وانتظار الرطب حتى يجفَّ فقد افتقدنا الدخان النقي وطعم الرز العنبر ورائحة السمك المقلي ووو أمّا دخول الطباخ النفطي(أبوعينين) الذي تتوسط زجاجةُ النفط شعلتيه فقد كان الحدث الابرز، حيث باتت زوجة أخي تطبخ الرز والمرق في آن واحد، هذا على العين هذه، وذاك على الثانية، وكذلك أمرها مع الشاي والحليب وسواهما، وبدخول الغاز السائل وانتصاب الطباخ ماركة(عشتار) مهيباً في المطبخ الحديث يكون كل حديث عن الموقد والحطب والروائح والطعوم بلا معنى، فقد تقوضت فكرة القرية في العقل الحديث، وأمست المدن بكل تشوهاتها قبلة الانسان حيث أتى وأقام.