د. نادية هناوي
الحداثة مفردة لها وقعها في مزاج الأدباء والفنانين العراقيين عامة متضمنة لديهم معنى جوهرياً فيه تتجلى كل التطلعات ومختلف الأماني والآمال،
ومن لا يتكلم بالحداثة يحكم على نفسه بالانحدار الفني والتراجع النوعي. وما من أمل منشود في الشعر مثل أمل الوعي الحداثوي والتمكن من التدليل عليه وتأكيده بشكل مرئي في القصيدة وظاهري في العالم فيكون الشاعر هو النموذج الذي يستحق التأشير والتنويه.
وليس هذا بالكثير على شعراء العقد الستيني الذين كانوا ما يزالون قريبين من عهد التثوير الشعري الذي قاده شعراء القصيدة الحرة أو التفعيلة كما أنهم متصلون بشاعر أخذت نار شاعريته بالتوهج قوية منذ البداية مع أن هناك شاعريات عايشته ومتماثلة في توهجها لكن ليس بقوته وأعني به حسب الشيخ جعفر الذي شكّل فنيا رافدا مهما من روافد الحداثة الشعرية الثانية بينما توزعت زمنية هذا التجريب بين نهاية عقد وبداية عقد. ولكن ظلت الطواعية والثقة بروح العصر ثابتة لديه غير معني بتجييل شعره ضمن هذا العقد أو ذاك وغير مهتم أيضا أن يدرج مع الحداثيين أو لا.
وإذا كان التجييل العقدي هو نتاج ممارسة الشاعر النقد الادبي، فإن نقد هذا التجييل هو نتاج نقد النقد من لدن المتخصصين لاسيما الذين جايلوا عقد الستينيات وكانوا على بينة وقريبين من حال الشعر والشعراء آنذاك، ومن هؤلاء النقاد عبد الجبار عباس الذي أخذ على الشعراء الستينيين حماستهم المفرطة للجيلية والتي أدت بهم إلى معطيات غير موضوعية. واستند الناقد في هذه المؤاخذة على ثوابت نقدية لا يختلف حولها اثنان منها أن لا مناص في ممارسة الكتابة الشعرية من مواصلة التراث بالمعاصرة كما أن من الضروري التوفيق في التأثر بين التجارب الشعرية العربية والانبهار بالتجارب العالمية مع أهمية البعد عن التكاسل والتسرع والحماسة في طرح قضية التجديد فلكل حقبة طبيعتها الخاصة.
والتجديد يكون رياديا حين يؤسس لجيل جديد يعقب حقبة اتسمت بالركود والجمود والتحجر بينما يكون التجديد تحولا وتطورا حين تكون الحقبة مؤسِسة والجيل قائما وليس من السهل تجاوزه.
ولأن الناقد عبد الجبار عباس من المعاصرين لشعراء الستينيات وكان من النقاد الفاعلين المتحلين بالموضوعية، كانت مؤاخذاته لمّاحة وتشخيصاته دقيقة وهو ينتقد قطيعة بعض الشعراء الشباب عن الجيل الشعري الرائد مقابل انبهارهم بالشعر العالمي، مستغربا أنّ قولا عابرا ـ قاله نجيب المانع حول قصة الستينيات ومفاده أنها بلغت مستوى عالمياً ـ شجّع (الشباب الستيني المبتهج المتفاخر الذي تلقف القول كي يبرر به أخطاءه ويقذفه في وجه كل تقييم نقدي أمين) .
ومن هؤلاء الشباب شعراء كان مطلبهم التجييل. وقد وصف عبد الجبار عباس هذا المطلب بأنه(خيال مفرط الحماسة حد التوهم والاختلاق) لأن الامتداد بالتواصل والإضافة ما زال قائما بين الخمسينيين والستينيين والسبعينيين كما أن الاشتراك بين الأدباء الشبان واضح في أمرين: أولا / مبدأ الالتزام، وثانيا/ أصالة مزج التراث بالمعاصرة. أما من لم يستطع من الشعراء الستينيين مد التواصل مع السابقين واللاحقين فإنه انتهى (إلى المراوحة والشيخوخة المبكرة القانعة برثاء الذات والبكاء السري على غياب القدرة في وسط الطريق الشعري الشاق) بحسب الناقد عباس الذي رأى أيضا أن الاجتهاد في الشعر ليس بانتماء الشاعر إلى جيل جديد وإنما هو الاجتهاد الشعري الذي يجعل الشاعر جديرا بأن يفرض وجوده داخل جيله أيا كان جديدا أو محافظا.
وهنا نتساءل لماذا اهتم الشعراء الشباب بالتجييل أكثر من القصاصين؟ ونجيب ربما لان تركة الريادة في القصة لم تكن بالقوة نفسها التي عليها الريادة الشعرية ومن ثم كان وقع هذه الريادة شديدا أصاب (صغار الشعراء لا كبارهم) بعقدة التجاوز والانقطاع عن شعراء الخمسينيات.
وانزلق بعض الشعراء الستينيين إلى كتابة مقالات فيها كثير من الحماسة لشعر الستينيات ومنهم طراد الكبيسي الذي وصفه عبد الجبار عباس بالشاعر (موفور الموهبة واسع الإحاطة بالشعر) ووجد أن في طموحه إلى التعامل مع الشعر الستيني كجيل أخطاءً وقع فيها، ومنها التخلي(عن البساطة ونغمات الحديث اليومي إلى لغة متقعرة ولسان أعجمي في ظل غياب التمييز بين البساطة كألفة حميمة وبوح صادق وبين أمراض البساطة المشينة وتعالى غيرهم على البناء الواقعي الموضوعي المجسد إلى تهويمات لفظية تغرق في الغموض)
وبحسب عبد الجبار عباس فإن تجاوز جيل لاحق لجيل سبقه يستلزم أن يقوم الجيل الجديد بمراجعة نقدية واسعة لعطاء سابقيه في ضوء فهم جديد أكثر معاصرة وغنى واتصالا بمنجزات الشعر العالمي ونبض اللحظة الحضارية المعاصرة وبما يكشف قانون الاتصال والانقطاع بين الجيلين بحيثيات مقنعة تجيب عن أسئلة محددة مثل: كيف فهم الجيل الماضي الشعر؟ وما حقيقة العلاقة بين جيل الخمسينيات ومرحلته التاريخية؟ وكيف استوعبها وعبّر عنها؟ وما التقاليد الشعرية التي ورثها وأرسى دعائمها واستبقاها للجيل الجديد؟
لقد أكد الناقد عباس أن الإصرار على رفض تجربة الجيل السابق، هي بداية مضللة قد تنتهي إلى العقم والموت السريع، وأن التفرد ليس قفزة في فراغ وأن الانبهار قد ينسينا جرأة المغامرة التي يمكنها أن تجعل السفينة مثقوبة تترنح بين يدي بحار كليل البصر فقير الزاد وليس اقتناص الحقيقة الأعمق والابقى هو هدف رحلته الوحيد. ورأى أن من الصعوبة الوصول إلى حكم نهائي بصدد جدة جيل الستينيات، أولا لأن للتفرد أسبابا حضارية تؤدي إلى بروز ظاهرة واضحة وليس مجرد شعارات كقولهم(أجافيكم لأعرفكم) وثانيا كمهرب أو تعويض سايكولوجي وثالثا لان التفاوت بين الشعراء قائم من ناحية التجديد في التعامل مع التراث.
ووقف عبد الجبار عباس وهو ينتقد طراد الكبيسي عند شاعرين من شعراء الستينيات كانا متحمسين أيضا للتجييل والانقطاع، الأول هو سامي مهدي وناقش رأيه في أنه لم ينتفع من عطاء الجيل السابق إلا ببضع قصائد للبريكان والسياب، فكانت الأساس لما يطمح ان يفتحه من أفق شعري جديد. والشاعر الثاني هو فاضل العزاوي الذي رأى لغة السياب بدائية مباشرة ووعيه سهلا ذا بعد واحد يخشى المغامرة لاكتشاف العلاقات السرية وانه ليس إلا شاعرا اجتماعيا إصلاحيا يستبكينا على مومس خدعها شخص. ورد الناقد عبد الجبار عباس بان الأمر يبدو مسليا لا لأن المومس العمياء كانت تلخيصا مكثفا لمأساة عراق الخمسينيات، ولا لأن السياب رغم تسلط القضية السياسية والاجتماعية على شعره. . كان دائب البحث عن خلاص من تناقضات العالم. . بل لأن العزاوي عاجز في معظم ما كتب عن تحقيق ما يطالب به السياب فهو يلزم بدرا بما لا يلزم به نفسه لذا جاءت معظم قصائده تشكو طغيان السرد بضمير المتكلم المأزوم واصطناع الطرافة والمعنى بسبب إلحاح الموقف الثابت. . فلا العزاوي أنصف السياب في إطار مرحلته التاريخية ولا هو استطاع أن يتجاوزه بحق) (كتابه: مرايا جديدة،ص201)
وإذا كان الشاعر سامي مهدي قد ذهب إلى أن التكوين التراثي لمجايليه ناقص مبتور وذهب فاضل العزاوي إلى أن في التراث تراكما ميتا من مخلفات البداوة، فان حميد سعيد ـ بحسب الناقد عبد الجبار عباس ـ يلتقط من البداوة الأصالة ونقاء اللغة.
وعبد الجبار عباس دائم التوكيد على أن لا جيل جديدا يولد وهو متذبذب بين الأمل والتحقق، ولان الشاعر الذي يولد كنبتة غريبة من العدم لم يولد بعد، ولان الستينيات لم تأت من بعد مرحلة تخلف وانحطاط ومثّل على ذلك بجيل الرواد الذين جاءت انجازاتهم مغايرة أفقا ونظرة لشعر من سبقهم وعاصرهم من شعراء الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية العربية. . كما ضرب مثلا على التجديد بالامتداد الذي حققه بعد السياب شعراء عرب كأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمد معطي حجازي وهو تجديد لا يقل عما حققه شعراء الثلاثينيات الانجليز من بعد اليوت. ومن يقل بالانقطاع فكأنه يلغي الجذور التي من دونها لا يقوم الشيء ولا يثبت. وما طرحه داماسو الونسو حول الشعر المقتلع الجذور، جعل عزيز السيد جاسم يتساءل باستنكار: «هل أن هناك شعرا مقتلع الجذور تماما. . الشعر شأنه شأن أي شيء في العالم لابد ان يمتلك جذرا».
إن الافق المعرفي الذي تحلى به الناقد عبد الجبار عباس هو الذي جعله يشخِّص عيوب التجييل العقدي الذي جعل شعراء الستينيات يتحركون على أرض غير ممهدة منتقدا المتحمسين منهم للتجييل مبينا أن التجرد من المناخ الحضاري العام ومن الفهم الموضوعي لقضية التجديد الشعري هو وحده الذي يبيح لنا أن نتحدث عن ثورة شعرية كل عقد من السنين. وهذا طبعاً غير ممكن واذا حصل، فعندها لن تكون تلك الثورة إلا صداما وانسلاخا وتمردا.