لطفية الدليمي
كلنا نعرف أغاثا كريستي. ربما تكون الكاتبة التي تسيّدت عقول معظم القرّاء في بواكير شبابهم. هذه حقيقة عالمية وليست محلية ؛ فقد بيع من روايات كريستي مايقاربُ المليارين من النسخ، وبهذا تكون كتبها الأكثر مبيعاً على مستوى العالم بعد كتب شكسبير. هذا ماتخبرنا إياه الاحصائيات العالمية المعتمدة.
لم أحب أعمال أغاثا كريستي أبداً. ماتكتبه مشوّقٌ بالتأكيد لكثرة من القرّاء الذين لستُ واحدة منهم. هل سأجادلُ أنّ كتابات كريستي غير مشوّقة؟ هذا خطأ بالتأكيد. هي مشوّقة لكثرة من القرّاء الذين يتجاوزون المليارات؛ لكنها ليست مشوقة للجميع وفي كل الازمان.
التشويق ليس وصفة مثل مطيبات الطعام، وليس سلسلة من الاستراتيجيات الكتابية. يمكن القولُ أنّ التشويق المكثف ينحصرُ في الروايات البوليسية وبعض روايات الخيال العلمي وكتب المغامرة والاستكشاف، وهي في غالبها ممّا يتوق له الفتيان صغار السن.
تفاصيل عديدة يمكن إثارتها بشأن التشويق في الكتابة. التشويق ليس ميداناً لألاعيب السحرة مثلما هو ليس صنعة يختصّ بها الكاتب وحده ؛ بل هو عملية تخصُّ القارئ أيضاً. تتحقق الفاعلية التشويقية عندما يلامس الكاتب وتراً في قلب القارئ وعقله، ولن يتحقق هذا الأمر إلا إذا كان القارئ يمتلك تطلعات ذهنية ومعرفية في الميدان الذي يكتب فيه ذلك الكاتب. هنا سينكشف السبب الذي يجعل من الروايات البوليسية والخيال العلمي الجارف والمغامرة الميدان الأول الذي يجعله الكاتب ميداناً تجريبياً لمغامراته الكتابية: هذه الميادين لاتتطلب إعدادات معرفية مسبقة، وكلّ مايتطلبه الأمر هو أن يترك القارئ نفسه تنسابُ مع العمل مثل جذع شجرة يابسة تجرفها المياه الدافقة في نهر فائض. مشاركة القارئ تستلزم أن لايكون عنصراً حيادياً أو سلبياً Passive، وهذا مالايريده معظم القرّاء.
نُشِرَتْ مؤخراً الترجمة العربية لرواية (دعابة لانهائية Infinite Jest) للروائي الأمريكي الراحل ديفيد فوستر والاس، وهي رواية تقاربُ تخوم الألفي صفحة في النص العربي لها. هذه الرواية كتبها كاتب يُعرَفُ عنه الولع الطاغي في مزج تفاصيل حياتية كثيرة في تركيبة كولاجية قد لايستسيغها معظم القرّاء لأنها لاتتواءم مع خلفياتهم المعرفية؛ فهناك رياضيات وتاريخ لغة وتفاصيل عن لعبة التنس وتجوال في المعنى المفاهيمي للانهاية ومساءلة لطبيعة النظام الرأسمالي الحديث (النيوليبرالية الاقتصادية) وووووو. . . . سيقول البعضُ أنّ هذا عملٌ غير مشوّق. بالتأكيد سيقولون ذلك؛ لكن لابأس. باعت هذه الرواية في السوق المحلية الأمريكية مايقاربُ نصف مليون نسخة، ونحنُ نعرفُ أنّ الأمريكيين ليسوا من الموغلين في التفاصيل الفكرية التي تحفل بها رواية والاس.
التشويق ليس مقصوراً على ميدان الرواية. جرّب أن تتصفح منشورات الامازون وسترى العجب: دفقٌ متعاظم لاينتهي من الكتب التي تتناولُ شتى الموضوعات وأدق التفاصيل. لِمَنْ كُتِبت هذه الكتب؟ يوجد في العالم مايتجاوز السبعة مليارات من البشر، ولن يكون صعباً وجودُ بضعة آلاف أو عشرات آلاف ممّن يجدون هذه الاعمال مشوّقة لهم. قد لاتجدها أنت كذلك، هذا شأنك مثلما للآخرين شأنهم.
عقولنا ليست نسخاً متشابهة خرجت من مصنع تعليب واحد، ومن الطبيعي أن تكون استجابتنا متباينة للأعمال المكتوبة، روايات كانت أم غيرها، وسيكون أمراً لازماً أن نتواضع عند الحديث عن تجارب سوانا بدل القفز إلى تعميمات مجانية وشخصية جدا تلصق التشويق بكتاب دون آخر، أو بكاتب دون سواه. أنت لست مرجعية في التشويق. كلٌّ منّا هو مرجعية ذاته في نهاية الأمر. قلْ ماتشاء في كاتب أو كتاب ما، ودع الآخرين وشأنهم.
يرى البعض التشويق مختزلاً في (الحيثيات التفصيلية الشخصية الصغيرة والحميمة) التي تشبع نزعة التلصص على حياة الكاتب. شيء يشابه ماكتبه (غراهام غرين) أو (هنري ميللر) مثلاً. اقترح على هؤلاء: بدلا من تنظيراتكم عن التشويق في الأدب أكتبوا أنتم ماترونه قمما أو طرازا مرجعيا في هذا الشأن لتشبعوا نهمكم للتشويق والاثارة.