ستار كاووش
دائماً ما تكون نصيحتي الدائمة لمحبي السفر، هي قضاء أكثر ما يستطيعونه من وقت بالتجول مشياً على الأقدام في المدن التي يزورونها، فذلك يسمح لهم بمعرفة المكان بكل تفاصيله وتنوعه ومفاجئاته وما يحمله من خصوصية ولمحات لا يمكن الإنتباه اليها أثناء ركوب التاكسي، الباص أو باقي وسائط النقل. وقد تعودتُ عند السفر، أن أحمل في حقيبتي حذاءً مناسباً يسمح لي بقطع جولات طويلة مشياً.
أتحدثُ عن ذلك الآن لأن جولتي اليوم كانت طويلة نسبياً، لكنها حملت أيضاً الكثير من المتعة والفائدة، لأنها كانت في الطريق الى الأستاذة العظيمة زها حديد وعملها المذهل (بيت الميناء) على أطراف مدينة أنتفيربن البلجيكية، حيث كان عليَّ أن أقطع ستة كيلومترات تقريباً، وهي المسافة التي تفصل بين مكان إقامتي وعمل زها حديد. سحبتُ خطواتي صباحاً بإتجاه ساحة فنسنت فان خوخ القريبة، وهناك توقفتُ قليلاً لأفتح مطوية الخارطة كالعادة، فإنتبهتُ الى أنني يجب أن أسلك الطريق الذي يحاذي متحف الشوكولاتة، وهكذا مضيتُ الى هناك وعطفتُ نحو اليمين، مروراً ببعض المقاهي التي بدأت تفتح أبوابها وترتب طاولاتها الخارجية. كان الجو دافئاً لحسن الحظ، فتوقفتُ قرب متحف (آن دي ستروم) وهو متحف جديد في هذه المدينة، ويهتم بتسليط الضوء على العلاقة التي تربط أنتفيربن بالعالم تأريخياً وثقافياً. تطلَّعتُ الى الخريطة من جديد، ثم طلبتُ فنجان قهوة من المقهى التي بدتْ فارغة وهي ترتفع عن الشارع بضع درجات. مرَّت دقائق قبل أن أكمل طريقي، وقد توضح أمامي الجسر الصغير الذي عليَّ عبوره، مضيتُ نحو الجهة الأخرى، وسرتُ بمحاذاة نهر سخيلده. إسترسلتُ في طريقي وأنا أتطلع لبعض البنايات التي مرَّ على بنائها بضعة مئات من السنين، حتى إنبثقَ متحف كوبرا على يمين الشارع، وبدا كإنه مصنع قديم بهيئته الضخمة وواجهته القديمة وبوابته الكبيرة بلونها الأخضر الداكن. وهذا المتحف قد أسسه صانع الموانيء وراعي الفن في بلجيكا فرناند هاتس (الذي يتعبر أهم شخص إهتم بالفن في بلجيكا. وحسب خبراء الفن، فإنَّ ما يقدمه هذا الرجل لوحده يساوي قيمة ما يقدمه واحد وعشرين متحفاً مجتمعة في أقليم الفلامنك الشمالي) وهذا يقول ما فيه الكفاية عن قيمة هذا الرجل. ويحتوي هذا المتحف على الكثير من أعمال جماعة كوبرا الفنية الشهيرة التي ضمت فنانين من هولندا وبلجيكا والدنمارك. تركت جماعة كوبرا خلفي وأكملتُ طريقي مع شعور بأني أتجه نحو خارج المدينة، مضيتُ في طريقي أكثر، لأحاذي جداراً قديماً بانت عليه آثار الزمن، كان طويلاً ويثير شيئاً من الكآبة، فإبتعدتُ الى الجهة المقابلة لأتبين الجدار بشكل أفضل، وإذا به متحف (ريد ستار لاين) الذي أنشيء في البناية التابعة لشركة الملاحة والشحن البلجيكية التي كانت تحمل ذات الأسم، والتي كانت النقطة الرئيسية التي يتجمع فيها المهاجرون الأوروبيون الى أمريكا (كان أنشتاين واحداً من الذين سافروا الى أمريكا من هذا المكان) وقتها كانت إنتفيربن أهم ميناء في أوروبا. وقد جُمِعتْ في هذا المتحف قصص وصور ووثائق المهاجرين وتفاصيل معاناة هجرتهم بسفن الشحن. وهكذا كلما إجتزتُ متحفاً ظهر لي متحف جديد، وكلما عبرتُ جادة في هذه المدينة القديمة كلما إنفتحت لي جادة جديدة أكثر جاذبية من الأخرى. تُرى كم أحتاج من الوقت كي أتمكن من رؤية كل هذه التفاصيل والجمال الذي يتناسل مع خطواتي التي أقطعها في طرقات هذه المدينة الساحرة؟ مرَّ الوقت وأنا أمضي بين هذا المتحف وتلك الجادة، الى أن بانَ من بعيد الجزء العلوي من نصب زها حديد، والذي لاحَ ملتمعاً تحت أشعة الشمس، إقتربتُ أكثر فإلتمعت أجزاء النصب أكثر وأكثر، وما أن صرت بمحاذاة المكان حتى تشظت الانعكاسات وبانت جوهرة زها حديد بوضوح أكثر، وهي حقاً جوهرة مذهلة، لأنها صَمَّمَتْ العمل بهيئة قطعة كبيرة من الماس، أخذت شكل سفينة، في إنتباهة مذهلة وذكية منها للإشارة الى مدينة أنتفيربن التي تشتهر بتجارة الماس، كذلك أعطت للميناء هويته. وقد استخدمت في هذا العمل عشرات الآلاف من قطع الزجاج المثلثة التي شكلت ما يشبه النوافذ المتراصة مع بعضها، وتكوِّن في النهاية قطعة فريدة من الماس، لتكون النتيجة هذا العمل الأسطوري الذي يتأرجح في فضاء المدينة ويعطي للميناء هيبته وقوة حضوره. درتُ حول حول هذا العمل العملاق وتأملته من جهات عديدة وهو يربض وسط شبه جزيرة الميناء، لأقف أمام اللافتة التي كُتب عليها إسم الساحة التي شغلها هذا العمل، وكم فرحت وأنا أتهجى إسمها المكتوب (ساحة زها حديد) هكذا سَمَّتْ بلجيكا هذه الساحة بإسم هذه المبدعة العراقية، ولإن جمال اللحظة يفرض علينا المقارنات، لذا تذكرتُ كيف بدأت يومي بساحة فنسنت فان خوخ وكيف إنتهى مشواري بساحة زها حديد، هكذا تقف هذه المرأة بشموخ وسط عباقرة العالم، وبهذه الطريقة قالت كلمتها ومضت للأعالي. مضت وبقي إبداعها شاهداً على عظمة امرأة عراقية تجاوزت المستحيل وركلت الصعوبات، لتضع بصمتها في العالم. وهنا سأعيدُ ما قلته في أكثر من مناسبة، وهو إن زها حديد وبالنظر لما قدمته للعالم الذي إتسع لشهرتها وحضورها وقوة موهبتها وإصرارها على التفوق والنجاح، بأنها عظم شخصية عراقية وأهم موهبة قدمها العراق للعالم خلال قرون من الزمن.