حيدر المحسن
من البديهي أن صديقي (ك.ا) مرّ بتجربة حب واحدة أو أكثر، واصطدم بما يشبه الجدار، وشُجّ رأسه بالنتيجة، ولا يزال يحمل من أسى الجرح آثارا عميقة، هي السبب الرئيس الذي دفعه إلى البحث عن زوجة بطريقة مغايرة.
بعد نشر المقال في الأربعاء الماضي بعثت لي سيدة جليلة القدر، وهي إحدى رفيقات الدّرب في أيّام الدراسة، رسالة تساءلت فيها عمّا يقوله تشيخوف عن المرأة، وقاربت السيدة الطبيبة بين رجال الأدب وعلماء الدين، فالاثنان يفصلان ما يريدان على مقاس الرّجال. أجبتُ الزميلة إن الكلام عن الرجل هو نفسه في دنيا الأدب عن المرأة، فنحن نستطيع القول -وفقا لنظرية تشيخوف- إن في حياة المرأة ثلاثة رجال؛ واحد يحبّها، وآخر تحبّه، وثالث تتزوّجه. أجابتني السيدة: «لا أعتقد أن ما ينطبق على الرجل ينطبق بالضّرورة على المرأة، فلكل طبيعته وخصوصيته، ولكن يؤلمني النظر دائما من زاوية وجهة نظر الرجل وما يحب وما يريد وما يجعله سعيدا أو تعيسا».
الموضوع مهمّ وحيويّ، ويمكن أن يقلب وجهة كلامي من الأدب إلى الفلسفة والفكر. قالوا: في كل مرة تتناقص الموهبة الأدبية يكسب الفلاسفة، لكن المقدار الأمثل من الأفكار يمكن أن نصنع منه شيئا من فن الكلام. فلنتعاون إذن جميعا، أنا وأنتم والسيدة الطبيبة، في سبيل إنجاز ما يلقي الضوء على جزء مما نعيش فيه من ظلمة.
أفضّل كثيرا لفظ (الجنوسة) العربية على (الجندر) الأنكليزية، والمشتقة من الكلمة اللاتينية Genus والتي تعني مجموع الصفات المتعلقة والمميّزة ما بين الذكر والأنثى، وكانت الفيلسوفة سيمون دي بوفوار أول امرأة تنشر في كتابها (الجنس الآخر) الفروق التي يضطهد بها المجتمع النساء، والأمر يعود إلى سطوة الرجل العاطفية على المرأة لأنها تنتمي إلى جنس الأنثى في عرفه هو لا بالمفهوم الطبيعي للخلق، وقالت دي بوفوار سنة نشر كتابها (1949) قولتها الشهيرة “الأنثى تولد إنسانا ثم تصير امرأة”.
نلاحظ أن القصة التي ذكرتها في المقال السابق كُتبت في أوروبا في الثلث الأول من القرن الماضي، وقام صديقي بنشر إعلانه في هذه السنة، وبنظرة بسيطة نرى أننا متأخرون في موضوع الجنوسة عن الغرب مسافة أفقية تبلغ قرنا كاملا، أما الزمن الشّاقولي -وهي المدة الزمنية التي تكتسب فيها الشّعوب خبرتها في فنّ المعيشة- فهو يبلغ ربما مئة قرن أو أكثر، فلا يحقّ لنا والحالة هذه جمع ما يُقال هنا، مع ما يُطرح هناك من نظريات ومفاهيم.
تقدّم المرأة الشرقية نفسها للرجل أول مرة كأنها عمل فنيّ، حظّ الخيال المبذول في صنعه يعادل نسبة الواقع، فهي تعرف بغريزة الخلق التي وهبتها لها الطبيعة كيف تظهر كي تلتفت إليها الأنظار وتنتبه. يصف محمد خضير في إحدى قصصه امرأة تتجمّل بأنها كانت “تقشّر زينتها”، أي أنها كانت تزيل الشوائب والزوائد وكلّ ما هو غير كائن في صورتها كي تظهر أمام الملإِ مثل لوحة. وفي الأدب العربي القديم نجد هذا الوصف عن بنت حواء: “إنما النساءُ لحمٌ على وَضَمٍ إلاّ ما ذُبُّ عنه”، والوضم هي الخشبة أو البارية التي يوضع عليها اللّحم تقيه من الأرض.
من مفكّرة الطبيبة التي فتحتُ معها باب الحوار، أنقل إليكم هذه الكلمات: “نرى يوميا عشرات النساء من مختلف الأعمار ولا همّ لهنّ سوى أن يحظين بوجه جميل وقوام ممشوق، والرجال يتعاملون مع بناتهم حتى الأطفال منهنّ كأنهنّ تحف نادرة يخشون عليها من أيّ ضرر قد يترك أثرا يخرّب جمالها في المستقبل. أسأل نفسي: متى نتوقّف عن التعامل مع المرأة بهذه الطريقة؟ متى نجعل الفتاة تهتمّ بتكوين شخصيّتها وعقلها ومستقبلها المهنيّ بدل أن تكون جميلة في عين من يراها”.
تذهب السيّدة في رأيها إلى أننا ما زلنا ننظر إلى المرأة على أنها لحم على وَضَمٍ، إلاّ ما ذُبَّ عنه...