صادق جلال العظمرحل النقدي الأول وترك غيابه ثقباً أسود في ثقافتنا النقدية المعاصرة وفي نفوس أصدقائه وزملائه ومحبيه وفي نفوس المعجبين بشجاعته وجرأته والمتأثرين بفكره الحداثي وحسه النقدي الراقي ومواقفه المتقدمة والمستنيرة دوماً. هؤلاء ليسوا قلة قليلة بالتأكيد وأعرف ذلك من التجربة الشخصية الحية.
أعتز كثيراً بأن أول لقاء حواري كبير أجراه نصر حامد أبو زيد مع جمهوره العربي بعد خروجه الاضطراري من مصر الى منفاه الهولندي بسنوات كان في دمشق في شهر أيار (مايو) 1999. زحفت دمشق يومها باتجاه المركز الثقافي الفسيح في ضاحية المزة للاستماع الى نصر ومناقشته ومحاورته، بعد طول غياب، في طروحاته الفكرية النقدية اللامعة حول قضايا الحداثة والنص الديني والتأويل وروح العصر عموماً، وفي ذلك التعصب الديني الأعمى الذي أجبره على مغادرة وطنه وجامعته نتيجة تطليقه عرفياً من زوجته الأستاذة الدكتورة إبتهال يونس بلا سؤال او إذن او استئذان من الشخصيين المعنيين بالأمر حصراً وهما، أولاً وأخيراً، ابتهال ونصر ولا أحد غيرهما. زحفت دمشق الثقافة لتحاور نصر حامد أبو زيد بمناسبة الأسبوع الثقافي الذي أقامته وقتها دار المدى للثقافة والنشر في دمشق امتداداً طبيعياً للأسبوع الثقافي الشهير الذي دأب قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في جامعة دمشق على إحيائه في الربيع لسنوات عدة (1993 ـ 1998). تشرفت يومها بتقديم الصديق نصر الى الجمهور الدمشقي في تلك الأمسية الحوارية النقاشية الحارة التي استمرّت ما يقارب الـ4 ساعات على الرغم من الحر الشديد في ذلك اليوم، وعلى الرغم من اكتظاظ القاعة الرئيسية في المركز الثقافي بالحضور مما استدعى تشغيل أجهزة التلفزيون الداخلية في قاعات المركز الأخرى لنقل المشهد وتوجيه مكبرات الصوت الى الخارج حيث احتشد جمهور غفير في الهواء الطلق لمتابعة جلسة الحوار والنقاش والسؤال والجواب. كان نصر رائعاً وألمعياً كعادته وما زالت تلك الأمسية راسخة في الذاكرة الجماعية لدمشق الثقافة والفكر وهموم الشأن العام عربياً ومحلياً. عالج نصر «مفهوم النص» دون ان يخلط المفاهيم بعضها بالبعض الآخر فبقي واضحاً في مفاهيمه، ودون ان ينتفخ النص عنده ليتحول الى كل شيء وبالتالي الى لا شيء فظل «النص» لديه نصاً بحدود معروفة ومعان مفهومة ودلالات معينة. تناول «الخطاب الديني» نقداً دون ان ينفلش الخطاب عنده ويتضخم ليصبح ألف الأشياء وياءها ودون ان يعلن «موت» أصحاب الخطاب وكُتّابه او يُروِّج لاضمحلال معانيه الى درجة الصفر او ربما تحتها حيث يصبح المعنى هو اللامعنى والعكس بالعكس، ودون ان ينبهر بسحر الخطاب وبيانه أو يفقد وعيه بتأثير من أفيونه. نقد الخطاب الديني المعاصر وآلياته دون ان يكون النقد عنده تجريحاً أو تهجماً او إلغاء لأحد ودون ان يكون الديني عنده مطلقاً متعالياً يُفرض عنوة وقسراً على الناس والمجتمع والحياة عموماً. يبقى نصر في ذلك كله نموذجاً يحتذى لكلجريدة السفير
النقدي الأول
نشر في: 9 يوليو, 2010: 06:54 م