TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > التفكير في زمن التكفير

التفكير في زمن التكفير

نشر في: 9 يوليو, 2010: 06:55 م

كاظم جهادندرَ أن أقرأ اسمَ الفقيد نصر حامد أبو زيد أو أسمع به في السنوات الأخيرة من دون أن أتذكّر تلك الأمسية من أحد أيّام صيف 1995، التي جاء فيها هو وزوجته الدكتورة ابتهال يونس يعرضان على الجمهور الثقافيّ بباريس أجواء الحملة المناوئة والشديدة العنف التي انتهت بتكفيره في بلده.
 وإذ لم يجد أعداء الكلمة الحرّة في القانون المصريّ ما يسمح لهم بمقاضاة من هو متّهم مثله بالارتداد، فقد التجأوا إلى الفقه الحنفيّ ونبشوا فيه عقوبة تدعى بـ «الحسْبة»، جعلوا بموجبها يطالبون بالفصل بينه وبين زوجته باعتباره لم يعد مسلماً. في تلك الأمسية، راحت الدكتورة ابتهال يونس، وكانت يومها أستاذة للأدب الفرنسيّ في إحدى الجامعات المصريّة، تشرح للحاضرين في «المركز الوطنيّ للآداب» بباريس ملابسات القضية التي وجدا نفسيهما مزجوجَين فيها لأسباب محض فكريّة، وإلى اضطرارهما إلى مغادرة بلادهما حفاظاً على علاقتهما وتفادياً للمخاطر، هما اللذان لم يفكّرا بذلك قطّ ولا كانا يتوقان اليه. كانت ابتهال تتكلّم، والدكتور أبو زيد يستمع مثلنا، لا لأنّه لا يفقه الفرنسيّة، بل لأنّ مهمّة عرض مأساته والدفاع عن حقّه الطبيعيّ في التفكير كانت تبدو له نافلة، هو الذي جعل من فاعلىّة التفكير طبيعته الأولى وباعث وجوده، أي ما لم يكن ليخطر له على بالٍ أنّه سيكون ذات يومٍ مطالباً بتبريره كما لم لو يكن هو البداهة بالذات. إلى ذلك بدا لي هو نفسه مغزوّاً بكآبة عميقة سرعان ما فرضت نفسها على المكان، كآبة نابعة من رؤية حياة الفرد الخاصّة أو الحميمة وهي لم تعد في مأمن من العسف. كان في تلك المطالبة بالفصل بين زوجين عقوبةً على ما لا يحتمل أيّة عقوبة، أي التفكير العميق والاجتهاد الحرّ، أقول كان فيها ما يُنذر بخراب متدرّج ومريع هو ذا نحن غائصون في أتونه حتّى الرّقاب. لحظة استثنائيّة أخرى جمعتني بالفقيد، تمثّلت في قراءتي مجموعة دراساته المعنونة «إشكاليّات القراءة وآليّات التأويل». يندر في اعتقادي أن تجد في الدراسات الحديثة والمعاصرة كتاباً أكثر إضاءة منه لبعض أخطر مسائل البلاغة العربيّة وتداعياتها الفكريّة. وعلى رأس هذه المسائل يقف ثنائيّ المجاز والحقيقة، يعرضه أبو زيد عبر الفكر العربيّ القديم كلّه، اللغويّ منه والدينيّ، مع تركيز على الأشاعرة والمعتزلة، بلغة جمع فيها التبحّر إلى الكثافة العالية والتعلىل الرّصين. والدراسة الطويلة التي يخصّ بها في الكتاب نفسه تفكير عبد القاهر الجرجانيّ (توفي في 1078 م.) تجلو غوامض كثيرة في فكر هذا المنظّر الكبير الذي يعرف كلّ من ارتاد نصوصه التباس بعض عباراته ووعورتها. أمام القائلين إمّا بخطاب المجاز وإمّا بخطاب الحقيقة، يبين أبو زيد في فكر الجرجانيّ عن حيويّة عالية يعقد فيها مناط القول للسياق: فتعبير بذاته يمكن أن يبدو لمتكلّم أو سامع ما في موقف معَّين واجبَ الأخذ على المجاز، ولمتكلّم أو سامع آخر في موقف سواه ملزِماً بالأخذ به على الحقيقة. وعليه، فالسياق والقرينة والعلاقة والمناسبة والموقف، هذه المفردات المتواترة في الفكر البلاغيّ والأسلوبيّ والتأويليّ المعاصر إنّما كانت تشكّل في فكر الجرجانيّ من قبل كلمات - مفاتيح ومقولات معقودة لها السّيادة. ما يثير الإعجاب هو أنّ نصر حامد أبو زيد، لكي يمهّد لفكره في نقد الدين وفي تأويل النصوص تأويلاً عقلانياً أو ماديّاً كما كان هو يهوى ترديده، وخلافاً للكثير من المتنطّحين لتحليل أواليات الإيمان والاعتقاد وتناولها سلباً أو إيجاباً، حرصَ في البدء ودائماً على تكوينه الشخصيّ عالِماً باللّغة ومتخصّصاً ولا أرهفَ بمسائل البلاغة وقواعد إنتاج الخطاب. إنّ عدداً من الأعلام العرب أو المسلمين القدامى كالأشعريّ والجرجانيّ والقاضي عبد الجبّار، والغربيّين المعاصرين كالألمانيّ غادامير والفرنسيّ ريكور، يتعامل هو معهم ومع فكرهم والجهاز المفهوميّ لكلّ منهم بوضوح لا رطانة فيه، وضوح بقي مع ذلك شديد الابتعاد عن عقليّة الهتاف ولغة الشعارات التي سقط فيها غيره. كما بقي الفقيد جذريّاً في شجاعته الفكريّة، لم يتنازل عن قناعاته على شبكات الأثير كما فعل بعض زملائه، لا ولم يسقط مثل بعضهم أيضاً في لغة المُلاسَنة المجانيّة والسفسطة الاستعراضيّة التي تحفل وتحتفل بها الفضائيّات العربيّة. الفكر الفعّال الصّبور، هذا ما كانه في اعتقادي ذلك الذي عمل موظفاً في المصلحة المصريّة للاتّصالات السلكية واللاّسلكية طيلة عقد من السنوات، ريثما يتمّ تعلىمه الجامعيّ، أكمله بتفوّق وحتّى أعلى مراحله متعلّماً عصاميّاً وقارئاً مسائيّاً. هو مَن نذر حياته لممارسة صاغها مَبدأً في عنوان أحد كتبه: «التفكير في زمن التكفير». يا لها من عبارة تغصّ بجناسها الرّهيب الذي هو في الأوان ذاته طباق مريع: ما الذي يضمن لك حريّة التفكير في زمن التكفير؟ وبدون التفكير من يقول لك إنّك كائن أصلاً؟. موقع اوان

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram