ثائر صالح
مرّت أوروبا في عصرها الجليدي الأخير قبل حوالي 14 - 22 ألف سنة. كان الجليد وقتها يغطي معظم أراضيها،
وكانت الحرارة في مناطق البحر المتوسط تقل عن معدلاتها اليوم بحوالي 8 - 10 درجات مئوية صيفاً وشتاء. تقلص النشاط البشري كثيراً خلال العصر الجليدي وانزوى الإنسان ليعيش في المغاور طلباً في الأمان والدفئ، وهناك الكثير منها التي عثر فيها علماء الآثار على بقايا النشاط الإنساني، منها مغارة مارسولا في جبال البيرانيه القريبة من تولوز في فرنسا الشهيرة برسوم الكهوف، اكتشف في العام 1897. بين اللقى التي عثروا عليها في هذه المغارة سنة 1931 قوقعة حلزون عُدّت كأساً للشرب، لأنهم لم ينتبهوا إلى التحويرات التي قام بها الإنسان القديم عليها إلا مؤخراً بعد أكثر من 80 سنة من حفظها في متحف تولوز للتاريخ الطبيعي.
فقد انتبه علماء الأنثربولوجيا (علم الإنسان) والأثنوموسيقولوجيا (علم الموسيقى الشعوب) إلى وجود ثقب في طرفها يمتد عبر عدة دورات في داخل القوقعة قد استعمل لوضع مبسم للنفخ كما هو معتاد في الأدوات الهوائية المعاصرة، وبشكل مشابه للقواقع المكتشفة في اليونان القديمة وسوريا (العصر الحجري الحديث / نيوليثي) وكشفت التقنيات الحديثة مثل التصوير المقطعي (CT) عن تحويرات أُخرى، وتحمل جدران القوقعة آثار تلوين بصبغة حمراء مماثلة في شكلها ومادتها للرسوم الموجودة على جدران الكهف. يثبت هذا الصلة الوثيقة للقوقعة بالمعتقدات الروحية لجماعة الناس الذين رسموا على جدران الكهف.
وقد قام عازف هورن فرنسي بمحاولة إصدار الصوت من القوقعة، وتمكن من أداء ثلاث درجات هي درجة دو (256 هرتس) وهي الدرجة القياسية في السلم الموسيقي المعاصر، ودرجة هي أوطأ من دو دييز (265 هرتس) ودرجة ره (285 هرتس).
القوقعة كبيرة الحجم (طولها 13 سم وأوسع عرض لها 18 سم) وسميكة الجدران (0.8 سم في بعض أجزائها)، وهي من نوع منتشر في شمال شرقي الأطلسي وفي بحر الشمال. أثبتت صلة سكان هذا الكهف بساحل الأطلسي بعد العثور على عدد من اللقى أتت من ذلك الساحل. ويبلغ عمر القوقعة 18 ألف سنة بحسب فحص الكاربون المشع، بذلك يعدها العلماء أقدم أداة موسيقية من هذا النوع يعثر عليها حتى الآن تعود لأواخر العصر الحجري القديم (باليوليثي).
استعمل الإنسان هذا النوع من القواقع بكثرة، سواء لإصدار إشارات تسمع من بعيد كالنفير، أو لأغراض دينية أو سحرية وفي مناطق شاسعة تمتد من المحيط الهادئ ونيوزيلندا مرورا بالهند والشرق الأوسط حتى أوروبا. كانت للموسيقى أهمية كبيرة في أواخر العصر الحجري القديم، ويثبت ذلك العثور على عدد قليل من الأدوات الموسيقية مثل الصافرات وأشباه الناي ومثل هذه القواقع. ومن المحتمل أن تكون الطبول هي أول الأدوات الموسيقية التي استعملها الإنسان لكن لم يعثر على نماذج منها لأنها تصنع من مواد تتلف بسرعة مثل الخشب وجلود الحيوانات.