د. نادية هناوي
شهدت الشعرية في الثلث الأخير من القرن العشرين في العراق تحولا نقديا في علاقة الشعر بالواقع،
اتضحت آثاره على شعراء العقد الستيني سواء على مستوى نصوصهم أو في مواقفهم المقاطعة والنابذة والعدائية تجاه الشعراء الذين لا يوافقونهم الهوى سياسيا أو من الذين جايلوهم أو الذين سبقوهم بما فيهم جيل الرواد والجيل الكلاسيكي الإحيائي أيضا.
وظل هذا التحول النقدي يترسخ كنزعة عامة تسعى إلى جعل الشعر يسير في ركب الواقعية عموما والالتزام خصوصا وساعدت مجموعة ظروف حياتية في أن يكون هذا السير محتدما، فكان أشبه بأتون قابل للانفجار أواسط العقد السبعيني. وكان طبيعيا جدا ألا يكترث النقاد والشعراء بما في التجارب الشعرية من مسائل تقنية كالقصصية والأسطورة والقناع وتداخل الأصوات والأزمنة والدرامية والرمز وإنما غلبوا الموقف السياسي للشاعر أي مع من يتكتل والى من ينتمي ومع أية جهة يميل. أما الشعراء غير المتكتلين البعيدين عن التناحرات السياسية فتم إغفال انجازاتهم بوعي وقصدية.
وإذا كان تجييل شعراء الستينيات ناجما في الأساس من علاقة الشعر بالسياسة والمجتمع، فان تجييل شعراء العقد السبعيني كان من تبعات هذه العلاقة أيضا وعليها راهن الناقد الملتزم. وكان للتطورات الجوهرية على صعيد الواقع السياسي والاجتماعي أبان العقد السبعيني دورا في ترويج مقولة(شعر الشباب) لأول مرة في النقد العراقي لتكون وصفا قارا على الشعراء الذين ظلوا شبابا حتى وهم يتخطون القرن العشرين ويدخلون في القرن الواحد والعشرين.
ولا مراء في أن اعتماد مفردات (الشبابية / الطفولية /الشيخوخة) يدلل على إقرار بالمعيار الزمني واقتناع بان عدد السنين العشر كاف للتعبير عن عمر التجربة، وان ليس في حصرها داخل العقد ما يضرها ما دامت مفصولة عما قبلها وما بعدها. ومن ثم يظل الشاعر ـ الذي هو في هذا العقد شاب ـ منظورا إليه ذا تجربة شبابية مهما كبر وتقدم به العمر !!.
ونجم عن هذا المعيار خطل في رؤية التجارب الشعرية وتقييمها، والاهم أنه صار عُرفا من أعراف النقد العراقي يداوم عليها دارسو الشعر وظهرت من جراء هذا العرف مقولات(الشعراء الشباب، منتدى الشعراء الشباب، مهرجان الشعراء الشباب، مسابقة الشعراء الشباب، جيل الشعراء الشباب، أدب الشباب)
ولعل من أوائل النقاد العراقيين الذي ساهموا في إطلاق مقولة الشعراء الشباب على شعراء العقد السبعيني حاتم الصكر الذي حمله نظره العقدي إلى تجاربهم على أن يصنفهم تصنيفا عمريا فيه (نمو طفولي ثم نضج شبابي ثم حنين وخفوت) اما الولادة ففجائية، (فلقد ظهر السبعينيون بيننا فجأة في وقت لم تكن فيه أصداء البيان الشعري الستيني قد خفتت بعد وما يوجب النظر إلى تجربة هذا الجيل بجدية ظهور أصواتهم بحس جماعي يعكس تولد فقاعات محددة جسدتها محاولاتهم اللاحقة) (كتابه: مواجهات الصوت القادم، ص178) أما ما قبل الشباب فضياع وما بعد الشباب فندب. وإذا كنا لا نشك في ان لا علاقة لعمر الشاعر بقوة ميكانيزما الإلهام أو خفوتها فإننا أيضا لا نشك في ان هناك علاقة بين العمر والسياسة لكون النزوع السياسي لا تتضح آثاره ولا تبين أبعاده إلا إذا كان المرء قد تجاوز الطفولة ودخل في مرحلة الشباب.
وإذا كانت السنوات العشر هي المعيار الزمني، فان الشبابية هي الرهان الذي جعل هذا الجيل ـ بحسب الناقد ـ محملا بهاجس مشوب بالخوف والتردد سيطر على جزء كبير من مجهود الشعراء الشباب، فعبّر عنه بعضهم ككابوس قاس وعبر البعض الآخر عنه كمنازلة غالبا ما تنتهي بإعدام القصيدة.
وعلى شاكلة شعراء التجييل العقدي في الستينيات الذي نفوا الاعتماد على (السنوات العشر) كذلك نفى الناقد حاتم الصكر ذلك نظريا لكنه عمليا اعتمد على معيار السنوات العشر حين دخل في تفاصيل التجييل مقيما الشعراء ومحللا الشعر، منطلقا من فرضية تعالق الشعر بالواقع ومؤمنا بمبدأ الالتزام في الأدب، متحصلا على ما يأتي:
أولا / القطيعة التي تعني دماء جديدة بها يبني الشاعر الشاب مستقبله، مقطوع الصلة عما قبله ولا امتداد له مع من يأتي بعده، منطلقا من الدرجة صفر في البناء!!.
ولقد برر الناقد هذه القطيعة بالقول:(ليس في هذا دعوة لهم كي يقعوا في فوضى المغامرات الأسلوبية..بل هي إشارة إلى ان التجدد الذي يسبق التجديد الصادق يفترض ان يتهيأ لجسد شعرنا دم جديد لا تعرف دورته الأبعاد والحدود) ولا نقول إن في هذه الدعوة إلى القطيعة إسقاطا نفسيا لرغبة في القصاص من شعراء العقد الستيني باعتباره ناقدا ينتمي الى السبعينيات ولكننا نقول إنه التبشير بجيلية يراها الناقد بمثابة(نقلة شكلية تتطلب وعيا بجوهرها وفهما لقوانينها وموسيقاها اما التقليد والعفوية والجهل فلا تجعل من هذه النقلة إلا تراكما جديدا في تجارب ناقصة شكلية وعارضة)
ثانيا/ الشبابية أهم مواجهة من المواجهات التي تعطي لشعراء العقد السبعيني صوتا جديدا وتجعل منهم جيلا وبخلاف ذلك يظل الشاعر (السبعيني) يراوح في مواقع القصيدة الحرة وهو مصاب بـ(فقر دم متحصل من ضعف الجانب الثقافي فيها). فالمواجهة بالشبابية ـ بحسب الناقد حاتم الصكر ـ معنوية، والقصد من الشبابية توكيد اسماء شعراء لا يعنيهم شعرهم بقدر ما يعنيهم موقع اسمائهم لاسيما الذين تلبسهم الإحساس بالتفوق والتفرد.
ثالثا/ بالالتزام يكون للمواكبة والمعايشة صوت مستقبلي يضع شعراء السبعينيات على خارطة الساحة الأدبية ومن دون وجود موقف لشعراء السبعينيات سيواصل شعراء الستينيات حضورهم.
رابعا/ الأبوة تعني السطوة والبطش ولا بد للشاعر (السبعيني) من مواجهتها، يقول الناقد:(أبوة الشعر الستيني رغم حنانها وميزات الوراثة السخية الواضحة في الشعر التالي للستينيات لن تكون سوى أبوة صارمة في رأينا كما كانت أبوة الرواد والخمسينيين)
خامسا/ الانغماس في دقائق الواقع يصنع للشاعر(السبعيني) خطاً خاصاً يتمثل في(القصيدة اليومية) التي بها يلغى (الحلم الفردي) الذي نادى به شعراء العقد الستيني ويحل محله(الحلم الجماعي)
سادسا/ الما بعدية خطرة إن كان القصد منها التواصل مع السابقين واستئناف(الخط الذي بدأ منتصف الستينات مستلهما الأفكار الصوفية..إلا ان صوفية ما بعد الستينات ربما اتخذت مثلا أكثر غيبية وقدرية.. والخطر الذي يخشى هنا هو اقتصاد الحس الواقعي أو اليومي وإعطاء المبررات ثانية للشعور بضدية المجتمع والذعر المفتعل من الحياة)
سابعا / عدم اصطفاف الشاعر (السبعيني) مع الشاعر(الستيني) لان الاخير انهزامي وخائف وكافكوي غير انحيازي للحياة لا ينظر للسبعيني إلا(كالابن الأصغر في العائلة محكوم باللعنة والمروق ومتهم بتضييع الميراث وتبديد الممتلكات التي صانتها الاجيال السابقة)
ثامنا/ بالجيلية تكون المواجهة الشعرية قد حققت جديدا ومن دونها يكون الارتياح والكسل والركون إلى أنماط معتادة حققها السابقون. ولا يخفى ما في هذا التصور من انتقاص لشعراء الستينيات. وإذ نفى الناقد الصكر أن يكون وراء رأيه هذا موقف مسبق، فانه بالمقابل ينحاز لشعراء العقد السبعيني ــ لأنه منهم ــ والذين رآهم خلال هذه السنوات القلائل(كبروا وصار حق لهم علينا ان نتأمل نتاجهم) وحددهم بـ: خزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وسلام كاظم ورعد عبد القادر وهادي ياسين وعلي الطائي وجواد الحطاب وخليل الاسدي وفيصل جاسم وكمال سبتي وعبد المطلب محمود وصاحب شاهر. وتغافل عن آخرين من أقرانهم كهاشم شفيق وشاكر لعيبي وخليل المعاضيدي وناهض الخياط وحسن الخياط وموفق محمد وكاظم الحجاج وآخرين.
تاسعا/ التناقض بين النظر إلى النصوص من خلال الشعراء والنظر إليها بمعزل عنهم، مما أوصل الناقد إلى الشعور بخيبة الأمل (بما كان معقودا على هذا الجيل من آمال وما كان يبشر به من مستقبل وفق أطروحاته ونماذجه..ولعل هذه المراجعات والتطبيقات تعكس جزءا من خيبة الأمل بما انعقد من رهان عند ظهور هذا الجيل مطلع السبعينات)
والغريب أن ما حدده الناقد من مظاهر خيبة الأمل: كاختلاط المفاهيم والرغبة الجامحة في الاقتداء بنموذج جديد يصبح هو ذاته تقليدا بعد ان تتداوله الأيدي وعدم استيعاب الشعراء لقوانين النثر الموسيقية وتخليهم عن الوزن دون تكريس الإيقاع هي نفسها اتبعها فكانت من مظاهر تناقضه وقد انتبه إلى هذا الأمر أحيانا، فمثلا وجد نفسه يؤاخذ شاعرا كان قد أشاد به سابقا فاعتذر.
عاشرا/ الاستعلائية ليست في النظر إلى الشعراء العقد السبعيني بل هي أيضا في النظر إلى من نقدهم، فوقف عند كتاب(الموجة الجديدة) من دون ان يسمي مؤلفه الشاعر زاهر الجيزاني، رافضا أولا وصفه هؤلاء الشعراء بالموجة السبعينية الجديدة وغير واجد فيه ثانيا عملا نقديا يعطي تصورات نظرية أو خطوطا فكرية وآخذا عليه ثالثا إغفاله نماذج كثيرة من الشعر العراقي وهذه الملاحظة الأخيرة تؤخذ أيضا على الناقد الصكر الذي اعتذر أن كتابه ليس ببيلوغرافيا كي تضم كل شعراء المرحلة التي هو بصدد نقدها.
وعلى الرغم من هذه الاستعلائية في تناول عمل نقدي كتبه شاعر من جيل عقدي انتصر له الناقد حاتم الصكر، فان نقده لتجربة الشاعر كان اقل حدة فاعترف له بالتحديث على مستوى البنية الشكلية.
وبسبب الرؤية الالتزامية في علاقة الشعر بالواقع، ظل الاهتمام بالشاعر مقدما على الاهتمام بالشعر، وهذا ليس بالأمر الجديد فلقد شهدت عقود سابقة إغفالا نقديا لذكر شعراء ساهموا في تحديث القصيدة ومن أمثال هؤلاء الشعراء شاذل طاقة ومحمود المحروق وحسين مردان ومحمود البريكان ورشيد ياسين.