ستار كاووش
بينما كنتُ أقطع أحد شوارع مدينة إنتفيربن، إنتبهتُ الى منحوتة تُمثل يد أو كف إنسان، فأمعنتُ النظر فيها، وشعرتُ بأني قد رأيتُ مثلَ هذا المشهد بوقت سابق في المدينة، نعم لقد مَرِرتُ ببعض أشكال الأيدي هنا وسط المدينة وعلى مرسى مينائها، كذلك داخل محطة القطار.
تركتُ المنحوتة خلفي وسرتُ بين طرقات هذه المدينة البلجيكية التاريخية وأنا أفكر بتلك اليد الغريبة. وبينما أنا على هذا الحال، إنبقت قُبالتي يدٌ أخرى، كإنها تـؤكد تساؤلاتي وحيرتي مع هذه اليد الغامضة التي ما فتئت تظهر لي هنا وهناك. فما هي حكاية هذه الكف أو اليد التي تشرئب أمامي وتظهر بأشكال وحجوم مختلفة؟ مضيتُ في طريقي بغية الذهاب الى القلعة الحجرية التي تقع على ضفة نهر سخيلده، وقبل أن أصلها بقليل توقفتُ وسط ساحة السوق الكبير (خروت ماركت)، وهناك فكرت بالجلوس على أريكة خشبية من تلك التي تملأ الساحات والحدائق.
كانت كل أماكن الجلوس مشغولة، لكني لمحتُ امرأة مسنة تشغل جانباً واحداً من إحدى الأرائك وتضع قربها حقيبتها القديمة نصف المفتوحة، منشرحة بأشعة الشمس التي إحتجب نصفها خلفَ بعض الغيوم. كانت المرأة منشغلة بمراقبة بعض الطيور التي تتخاصم على قطع الخبز التي ترميها اليها. إستأذنتها بالجلوس قربها، فرحبت بذلك. كان في مواجهتنا تمثال كبير يتوسط الساحة، هو عبارة عن نافورة ضخمة تعمل بأوقات معينة، نظرتُ الى هذا النصب وتابعتُ حركته وإلتواءات أشكاله التي توحي بشيء من الدراما، رفعتُ رأسي أكثر حيث أعلى النصب، فإذا بتلك اليد الغامضة تظهر لي من جديد، وبشكل لم أتوقعه أبداً، فقد بدَتْ مقطوعة ويلوح بها الشخص الرئيسي للنصب وكإنه بصدد رميها نحو مكان بعيد. تسمرتُ في مكاني بسبب ظهور اليد من جديد وبهذه الهيئة الغريبة. ولأني أدمنتُ على حكايات المدن القديمة، وخاصة تلك التي أسمعها من الأهالي ذاتهم، حيث يروونها دون تزويق أو حذلقات، بل ببساطة لا تخلو من الفخر، لذا إلتفتُّ نحو جارتي وسألتها وأنا أشير الى أعلى التمثال (غريبُ أمر هذه اليد التي تفاجئني في كل الطرقات والأماكن هنا) ثم أكملتُ كي أسحبها للحديث (هل تعني هذه اليد شيئاً في بلجيكا؟ هل هي رمز مقدس أم إشارة الى شيء معين يخص المدينة؟) هنا إستدارت المرأة المسنة نحوي بكل جدية وإهتمام، وقالت بلطف شديد كعادة أغلب البلجيكيين (هذه يد مدينتنا أنتفيربن، التي كان إسمها القديم هاند فيربن، نسبة لهذه اليد. وإن كان لديك بعض الدقائق فسأخبرك بحكاية يد المدينة، حتى يحين وقت مجيء إبني الذي أنتظره لنعبر النهر نحو الجهة الأخرى من المدينة) فأجبتها (ليس هناكَ أحبَّ لي من معرفة حكاية هذه اليد)، فبدأت المرأة بالحديث بعد أن رَمَتْ آخر قطعة خبز في حقيبتها نحو حمامتين بدأتا بالإقتراب، وقالت (ربما تعرف ان هذه المدينة كانت قديماً أهم ميناء في أوروبا. وفي عصور بعيدة، بداية مجيء الرومان الى هنا، كان يسيطر على المدينة شخص ضخم يبدو كعملاق إسمه أنتيغون، كان يعيش في أحد الأبراج ويراقب كل من يرسو على الساحل، ولا يسمح لأحد بدخول المدينة إلا بعد دفع مبلغ من المال ومن يمتنع عن ذلك يقوم بقطع يده. وقد بسطَ جبروته حتى على الصيادين، وكان يقطع أيديهم إذا تخلفوا عن دفع الأموال له، حيث يضع صخرة منبسطة بمحاذاة ساحل المدينة، يقطع فوقها أيدي الذين لا يدفعون له ما يريد. وهنا تصدى له شاب روماني إسمه برابو ووقف لمحاربته وتخليص المدينة منه، وبعد نزاع صعب إستطاع هذا الشاب قتل العملاق، ثم قام بقطع يده ورميها في البحر. وبدأ الناس في بناء المدينة التي إزدهرت بعدها بسرعة، وصارت تلك اليد رمزاً لحرية المدينة وتطورها، وهذا التمثال الذي أمامنا يمثل تلك الواقعة كما ترى). شكرتها كثيراً، وقبل أن أودعها أخبرتها بأني سأكتب حكاية هذه اليد الخالدة، ومضيتُ تاركاً إياها منشغلة بفتات الخبز والطيور، وعدتُ مسرعاً أبحث في كتاب -يتعلق بتاريخ أنتفيربن- عن إسم برابو، هذا المحارب الذي أنتصر على العملاق وحرر المدينة، ووجدتُ عنه بعض المعلومات والتفاصيل التي تشير للحدث. خرجتُ من جديد نحو طرقات مدينة أنتفيربن وأنا أفكر بالمدن التي بُنيت وأزدهرت بشجاعة أبنائها، وإستحضرت الكثير من العفاريت الذين يجب التخلص من فسادها وطغيانها، كي يزدهر العالم الذي نعيش فيه وتنمو المحبة ويسود العدل. مضيتُ في شوارع المدينة، لكن هذه اليد لا تريد أن تغادر ذهني كرمز للعدالة والشجاعة وحب البلد. وما أن عطفتُ نحو شارع دي ماير، حتى ظهرت اليد أمامي من جديد، وكانت هذه المرة بهيئة أريكة حجرية، فلم أتوانى من الجلوس قليلاً على راحة هذه اليد، وأنا أُحصي مع نفسي أشكالها المختلفة التي رأيتها وسط ساحات ومنعطفات هذه المدينة المدهشة، مثل تلك التي كانت تتوسط محطة القطار بهيئة طائر، وتلك التي إفترشت الجدران الخارجية لمتحف آن دي ستروم وتوزعت عليه بطريقة مذهلة، أو حتى تلك التي ظهرت لي على حافة مرسى السفن، وبَدَتْ كإنها قد خرجت من عمق البحر وأمسكت بالوتد الذي تُربَطُ به السفن. أيدي كثيرة نُحِتَتْ على أبواب قديمة أو رُسمَت على جدران البنايات العالية، ووصلَ الأمر حتى الى علبة الشوكولاتة التي إشتريتها هدية الى جارتي في هولندا، حيث أخَذَتْ قطع الشوكولاتة شكل الأيدي.