فريدة النقاش(مقتنيات وسط البلد.. وجوه وحكايات من وسط القاهرة) (لمكاوي سعيد) هي آخر ما ابدعه الكاتب بعد روايته المهمة (تغريدة البجعة) وهي الرواية التي تقدم شهادة وردا على الذين يفصلون فصلا تعسفيا بين الأدب الحقيقي والأدب الرائج، فهي رواية عميقة وأصيلة من جهة ورائجة من جهة أخرى إذ جرى طبعها تسع مرات، وهي رواية جديرة بالتوقف عندها طويلا.
أما الوجوه الواحدة والأربعون في الكتاب الأول : كتاب البشر فإنها مجموعة من الصور الشخصية لنماذج من مثقفين يعيشون بيننا ونكاد رغم تغيير الأسماء أحيانا نعرفهم جميعا. وهي صور منظور إليها من موقع المحبة والنقد، وبروح ساخرة لا تحاكم وانما ترصد وتتساءل إن كانت التغيرات التي لحقت بالبشر خلال عام أو عامين هي قليلة أم جذرية، ويترك لنا استنتاج أن ما جرى هو انقلاب عام وجذري عندما نقف على تحولات بعض الشخصيات من الأفاقين واللاعبين علي الحبال الذين تاجروا طويلا بالشعارات النبيلة ثم تحولوا إلى تجار، وغدروا بأصدقائهم وبفتيات صادقات موهوبات تعلقن بالشعارات والأفكار، ولا يتوزع هؤلاء التجار عن الإلقاء بهن (للدنيا الباطشة) بعد أن تنهار كل مقومات العالم الذي كان قد قام على أعمدة واهية اساسها الزيف (حين مالت رمانة الميزان في اتجاهات أخرى، ومال معها صاحبنا في اتجاه النقيض التام لما كان يدعو له ويهدينا اليه ويدلنا عليه). وكان طبيعيا أن يقوم هذا المدعي المتقلب بعملية انتقام عصابي ثأري من طفل (كان يراقبه بدهشة ويبدو أن نبرة صوت صاحبنا ازعجت الطفل بشدة لأنه استغل فترة توقف الصوت لانشغال صاحبنا بشرب الكابيتشينو، واقترب الطفل منه بحذر وتجرأ ولطمه بالقلم علي قفاه دون سبب معلوم).. فما كان من صاحبنا بعد ذلك إلا أن اطفأ الأنوار في بيته والطفل في الحمام ثم ظهر له في ملاءة بيضاء في الظلام الدامس.. (فانكمش الطفل وأخذ يرتعد بجنون).وتوقفت أمام تعليق الكاتب الذي قال :وأظل اسأل نفسي: لماذا يطلب منا أن نترك ثأرنا مع عدو بينما لم يتركه هو مع طفل؟!(وفي استخلاصه لمغزى إحدى الحكايات يقول (إن بلاط الملك والحكام على مدى التاريخ محتشد بالمطبلين والمزمرين والمصفرين الذين يريدون طمس الحقائق).ينحاز الكاتب ضمنيا وفي جمل بليغة شديدة التكثيف للصادقين في زمن التوحش، وللموهوبين في زحف السطحية والالاعيب التجارية، ولقلب القاهرة المتناغم في زمن هوجة شراء المقاهي والعمارات وتغيير طبيعتها وكأننا بصدد مرثية لزمن انقضى، وأخذت آثاره تبهت ولكنه ترك بصمة لا تمحي على الأماكن هي قصيدة حب وحنين لهذه الاماكن وقاطنيها والعابرين (لم يداخلني شك في أن الحب بين البشر والجماد ممكن وقائم).ثمة شخصيات من النبلاء والصعاليك والحالمين والعائشين في عوالم افتراضية وبينهم الانسان الوحيد تماما في هذه الدنيا، وعلى طريقة الرائع (البير قصيري) نجد المثقف الفوضوي العبثي المثالي إلى درجة الطهارة والمدنس إلى ما قبل الحضيض).وسوف نجد في حكايات هذا الكتاب الممتع لا فحسب تاريخا ثقافيا لمرحلة مهمة في حياتنا من السبعينيات حتي العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بل سنتبين بمنتهى الجلاء أن كل محتوى اجتماعي ملموس فيها ليس مجرد واقعة بل علاقة اجتماعية تحمل إلينا تساؤلات ورؤى وأفكاراً وهي تقودنا ببساطة إلى كل من علم النفس وعلم الإنسان وتقول لنا: ما من طبيعة انسانية ثابتة رغم حديث الكاتب أحيانا عن طبيعة الأيام، وثمة تحول دائم وقلق وجودي يدعونا للإمساك بلحظة هذا التحول إنه ايضا سجل للمهمشين المنسيين الذين ضاعت مواهبهم في زحمة واقع قاسي، ولكنهم استطعوا مع ذلك أن يملأوا مقاهي وبارات وسط البلد بخفة الدم وبالحيوية والصدق ومحبة الحياة إلى أن حلت مكان بعضها محال فاخرة دون روح.وثمة جهد مبذول في كتاب الأماكن التي حولها (سعيد) إلى كائنات حية ونابضة ومعلومات جافة تضيف لمعرفتنا جديدا.هذه مجرد قراءة أولية في كتاب جميل وعميق، ولن يكون من العدل عدم التوقف أمام الرسوم المميزة (لعمرو الكفراوي التي اضافت تفسيرها الخاص للشخصيات وهي تستلهم تقاليد مدارس الفن الحديث من بيكاسو إلي جورج البهجوري.. فشكرا لدار (الشروق) التي أهدتنا في مجلد واحد ثلاثة كتب لا كتاباً واحداً.
إطلالة على وسط البلد
نشر في: 10 يوليو, 2010: 04:47 م