فاضل ثامر
رواية « نساء ماهر الخيالي « للروائي ياسين شامل، المنشورة عام 2018، تنهض بدءاً من العنوان والاستهلال، وانتهاءاً بالخاتمة، على خلق بنية سردية إيهامية وافتراضية، ركيزتها الأساسية بناء عالم افتراضي تخييلي يخلقه الروائي من شخصيات ورقية، وأحداث لا صلة لها بالواقع الملموس.
فعنوان الرواية نفسه « نساء ماهر الخيالي» بوصفه عتبة نصية أولى يكشف عن طبيعة شخصية البطل ماهر الذي يحمل صفة « الخيالي»، بوصفه شخصية فنطازية غارقة في خيال جامح، كما أن الرواية تنطوي على قصدية في الكتابة والتأليف، مما يجعلها تنضوي تحت باب الرواية الميتاسردية، إذْ يتمنى بطل الرواية وراويها ماهر الخيالي لو أن بمستطاعته العودة الى نقطة الصفر، والشروع بالكتابة ثانية بخيال شفيف ليصنع حكاية واقعية جديدة، وشخصيات مغايرة وواقعية:
« هل يمكن أن ابدأ ثانية من نقطة الصفر، بخيال سارح شفيف، فتأتي الحكاية مختلفة في زمان ومكان مختلفين، ويخط تاريخ جديد في قيد الأيام الساردة.» (ص 131) كما أن شخصيات الرواية النسائية طالبت بأعادة رسم بعض ملامحها بصورة جديدة، كأننا أمام تجربة الكاتب المسرحي الايطالي (لويجي بيرانديللو) في مسرحيته، ست شخصيات تبحث عن مؤلف» وهذا كله يدعم الجوهر الميتاسردي للرواية، وخاصة في التأكيد على أن شخصيات الرواية النسائية هي شخصيات ورقية لا وجود لها في الواقع.
تقوم رواية «نساء ماهر الخيالي» على لعبة سردية تجريبية ذكية تخرق المألوف التقليدي، وتؤسس لسرديتها الخاصة، إذْ يبني الروائي هيكلاً متماسكاً لعالمه وشخوصه، لكنه سرعان ما يهمشه بضربة واحدة بوصفه عالماً ورقياً هشاً وقائماً على الخيال الجامح.
ومع أن صوت بطل الرواية السردي هو المهيمن في الرواية، الا أن الرواية تحفل بالأصوات الغيرية، وخاصة النسوية منها، مما يجعلها تنتمي الى السرد البوليفوني، متعدد الأصوات، فهي تمنح الحرية لعدد من الرواة، وخاصةً من النساء للتعبير عن وجهات نظرهن تجاه شخصية البطل ماهر الخيالي. إذْ تبدو الرواية منذ البداية، وكأنها رواية سيرة ذاتية، أوتوبيوغرافية، يكشف يها الراوي المركزي متهر الخيالي عن نقاط ضعفه، وسيرة حياته وخاصة في الرسالة التي وجهها الى د. حسون بدر، الذي عرض عليه قبول منصب حكومي كبير في التشكيلة الوزارية الجديدة،واعتذاره عن قبول مثل هذه المهمة السياسية لأنه لا يستطيع التلاؤم مع عالم السياسيين، وهو ما يجعل الرواية ذات بنية دائرية لأنها تنتهي، تقريباً من النقطة التي بدأت فيها، في الجزء الأول الموسوم « ماهر في الخيال»،حيث تختتم الرواية برسالة جوابية من (د. حسون بدر) يبلغه فيها باقتناعه بأنه غير مؤهل فعلاً للقيام بأي عمل سياسي لأنه رجل خيالي.
ويمكن القول أن نسيج الرواية السردية يتشكل من ضفيرتين سرديتين: أوتوبيوغرافية وبيوغرافية معاً. فمن جهة يسهم بطل الرواية ماهر الخيالي برسم صورة تخطيطية لشخصيته من خلال سرده الذاتي، وهو مظهر للسرد الذاتي الاوتوبيوغرافي. ومن الجهة الأخرى تسهم شخصيات الرواية، وخاصة النسوية منها في استكمال ملامح شخصية البطل ماهر الخيالي، وهو المظهر الثاني البيوغرافي للضفيرة السردية في الرواية.
ويمكن ملاحظة أن اللايقين والشك يشكلان ثنائية تهيمن على العالم الروائي. فكل الشخصيات والوقائع تصرخ بخيالية ماهر الخيالي، وحتى العنوانات الفرعية للفصول والأجزاء تشي بذلك. فالجزء الرابع والأخير من الرواية يحمل عنوان « لا تصدقوا ما قاله ماهر الخيالي» (ص 119) كما نجد عنوانات فرعية أكثر دلاله منها: ملف الخيال، ماهر في الخيال، بيت الخيال، شركة الخيال، وغير ذلك.
ويبدو لي أن شخصية ماهر الخيالي كانت قد تشبعت منذ البداية بأوهام وخيالات العوالم الروائية التي قرأها وتأثر بشكل خاص بشخصياتها النسوية، بدءاً بمدام بوفاري. وكان يعتقد، عندما دخل الجامعة، بأنه قد ترك وراءه عالم الخيال في الروايات التي قرأها، والنساء المنسوجات بأخيلة الروائيين، حيث بدأ بالتعرف على نساء حقيقيات، تجري في عروقهن الطرية، دماء متدفقة. « (ص 12) واكتشف عند ذاك أن. نساء الروايات مسالمات وطوع خياله، بيد أن الطالبات مشاكسات،عصيات.» (ص 12) ولكن كما يتضح من سير الأحداث الروائية أن، بطل الرواية ماهر الخيالي لم يستطع التحرر من أوهام نساء الروايات التي قرأها، فأسقطها على النساء الحقيقيات اللائي تعرف عليهن في الجامعة، ومن هنا تغذت عقدة الوهم الافتراضي لديه تجاه النساء اللائي التقى بهن أو صنعهن، كتابياً وسردياً، فيما بعد. وبذا يمكن أن نقول أن جوهر خيالية ماهر الخيالي وفنطازيته نابع من عملية الاسقاط النفسي projection التي اسقط فيها الراوي خيالاته على مخلوقاته، فجاءت ورقية، افتراضية، ولا علاقة لها بالواقع اليومي الملموس.
كما يمكن أن نعدّ شخصية ماهر الخيالي ضحية لما يسميه عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي (جان بودريارد) بالواقع الافتراضي virtual reality أو الواقع الفائق hyper reality، والذي يكشف عن تأثير مجتمع الاتصالات والميديا والاعلان التجاري، فضلاً عن تأثير المجتمع الاستهلاكي على سلوك الانسان في العصر الراهن. ويذهب (جان بودريارد) الى القول أن عالم الميديا والمواقع الاجتماعية تخلق لدى المتلقي عالماً افتراضياً وخيالياً، يحل محل العالم الحقيقي، الذي يتعرض الى الإختفاء والموت، بحيث يتعسر على الوعي التمييز بين الواقع وصورة المحاكاة المتخيلة للواقع الافتراضي التي يصطنعها أو « يفبركها» هذا الاعلام، إذْ يختلط العالم الافتراضي بالواقع الطبيعي، كما يختلط الذكاء الانساني، بالذكاء الاصطناعي ويخلص (بودريارد) ذلك بالقول أن العالم الافتراضي هو واقعي دون أن يكون له وجود في الواقع.
ومثل هذا الواقع ينطبق الى حد كبير على شخصيات رواية « نساء ماهر الخيالي» ٠فهذه الشخصيات، وان تبدو للوهلة الاولى واقعية، لكنها لا تمتلك حضوراً حسياً في الواقع اليومي. وهذا هو الأساس الوجودي والفلسفي لشخصيات الرواية، والنسوية منها بشكل أخص. ولذا نجد أن الدكتور حسون بدر يعبر عن خيبته بحقيقة ماهر الخيالي الفنطازية: « انك حقاً رجل خيالي لا تصلح لشيءعلى أرض الواقع البتة.» (ص 132) وأتهمه بأنه جامد ومتقوقع في دائرة خياله الضيقة، وأنه « أفسد الكثيرات من النساء إن كن من ورق أو من لحم ودم.» (ص 133) ولذا يجد بطل الرواية ماهر الخيالي نفسه في نهاية الرواية يمزقه اللا يقين والعماء ويتساءل فيما اذا كانت محنته مع الحياة، وليس مع الخيال.
« هل الحياة أصبحت محنتي المستديمة، وليس الخيال. ماذا دهاك يا ماهر الخيالي؟. أما انتهيت؟» (ص 134)
وبهذه النزعة السوداوية تنتهي الرواية لهذا العالم الكابوسي الذي يجد فيه بطل الرواية نفسه، ممزقاً وضائعاً ويفتقد الى أي يقين. والحقيقة أن الرواية ظلت محكومة منذ البداية وحتى نهايتها بثنائية (الشك واللايقين) التي هيمنت على وعي البطل وعلى عالم الرواية بشكل عام. فكل شيء يشير الى خيالية البطل والى فنطازيته، والى خيالية الأحداث للوقائع المرواة بشكل عام. وحتى العنوانات الفرعية للفصول والاجزاء تشي بذلك. فالجزء الرابع والأخير مثلاً يحمل عنواناً صارخاً هو « لا تصدقوا ما قاله ماهر الخيالي.» (ص 119) كما نجد عنوانات اخرى أكثر دلالة منها: « ملف الخيال» ماهر في الخيال، بيت الخيال، شركة الخيال، وغير ذلك.
والرواية، بهذا المعنى، يمكن أن تتهم باللا تاريخية، لأنها تفتقد الى زمن روائي محدد، والى بنية مكانية واضحة. ويبدو أن الروائي قد إنتبه لذلك ووضع بعض الاشارات التي تؤكد واقعية الاحداث مكانياً وزمانياً،حيث نكتشف أن معظم الاحداث تدور في مدينة البصرة. أساساً، والقليل منها تدور في العاصمة بغداد. أما زمانياً، فالاحداث تغطي فترة الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003، حيث انيطت للقوات البريطانية المسؤولية العسكرية والأمنية لأدارة شؤون المدينة، ولكن مع ذلك فأن هذه « الارخنة» اذا جاز التعبير – لا تغير من الأمر شيئاً، ذلك أن الرواية تظل تسبح في فضاء خيالي افتراضي ولاتاريخي، لا صلة له بالواقع الفيزياوي، وربما هو جزء من العالم الافتراضي والواقع الفائق الذي تحدث عنه الفيلسوف جان بودريارد.