لطفية الدليمي
نشرتُ العام الماضي موضوعيْن متلازمين: الأول بعنوان (الناقد الادبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية)، والثاني بعنوان (مأسسة النقد الأدبي).
تساءلتُ في موضوعي الأول: هل يمكن أن نلمح في عصرنا الراهن ملامح شخصية ناقد أدبي تتشابه - في قليل أو كثير - مع شخصية رينيه ويليك René Wellek أو هارولد بلوم Harold Bloom أو كلينث بروكس Cleanth Brooks أو ويليام ويمسات William Wimsatt أو فرانسيس آر. ليفز Francis R. Leavis أو نورثروب فراي Northrop Fry أو ويليام إمبسون William Empson؟ هذا سؤال يقودنا يالضرورة إلى سؤال آخر: هل يمكن أن نشهد في عصرنا هذا أعمالاً مكتوبة بروح تناغم تلك التي كتِبت بها أعمال على شاكلة: الأيقونة اللفظية Verbal Icon، أو تشريح النقد Anatomy of Criticism، أو سبعة أنماط في الغموض Seven Types of Ambiguities؟ وهل يمكن أن نقرأ تأريخاً حديثاً مختصراً أو موسوعياً للنقد الأدبي على شاكلة (تأريخ النقد الأدبي الحديث) – ذلك العمل الضخم الذي عمل عليه المنظّر الأدبي الراحل رينيه ويليك ونشرته جامعة ييل على مدى يقارب العشرين سنة؟ كانت إجابتي على كل هذه الأسئلة هي باختصار: لاأظنُّ أنّ شيئاً مثل هذا سيحصل في أيامنا هذه، والأسباب وراء هذا كثيرة يمكن إجمالها في عبارة مختصرة: تغيّر روح العصر وايقاعه واشتغالاته وأولوياته الضاغطة على طبيعة النتاج الأدبي السائد.
الموضوعة الأساسية التي أردتُ تأكيدها في ذينك الموضوعين هي العلاقة التداخلية التي باتت ترى في النقد الأدبي تياراً من التيارات المصطخبة في حقل أعمّ وأكثر شمولاً صار يوصف بحقل الدراسات الثقافية Cultural Studies.
لو أجرينا مسحاً سريعاً لخريطة النقد الأدبي العالمي لرأينا أنه بات مدفوعاً بعوامل (فكرية وبراغماتية) صارت تعمل على إعادة تشكيل خريطته الفكرية وحثّ عوامل اندغامه في حقل الدراسات الثقافية:
أولاً: تتمظهر العوامل الفكرية في تنامي مفهوم الدراسات النسقية العامة (أو الشاملة) Generalized Systems Studies في عموم المعرفة الانسانية سواءٌ كانت علمية أو أدبية. ثمة توجهات فكرية وأكاديمية متعاظمة ترى أنّ الأدب ينبغي أن يُدرّس مثل العلم، وأنّ الأدب آلةٌ ترتقي بدينامية تطوّر الدماغ البشري تماماً مثل سائر الانشغالات المعرفية الأخرى. عندما أكتبُ مثل هذا أنا أقرأ تضاريس الخريطة الأدبية، وتجتاحني جمرةٌ من ذاكرة نوستالجية أتحسّسُ فيها طعم اللذة الكبرى التي إجتنيتها من قراءة كلاسيكيات الأدب، ولستُ ممّن يميلون كثيراً إلى (تذويب) الحدود بين العلم والأدب ؛ لكنّ هذا هو واقع الحال السائد في العالم، وليس بمستطاعنا غضّ الطرف عمّا يحصل فيه ؛ فنحن في نهاية الأمر جزء من هذا العالم حتى لو لم نكن طرفاً مشهوداً له بالفاعلية والتأثير في تشكيله.
ثانياً: أما العوامل البراغماتية فيمكن أن نشهدها في طبيعة الدراسة الأكاديمية للأدب. ليس سرّاً أنّ الدراسات الأكاديمية في الأدب باتت تشهدُ إنحساراً عالمياً مقابل صعود وتنامي الدراسات المسمّاة STEM (وهي اختصار عالمي معتمد للعلم والتقنية والهندسة والرياضيات)، وقد تسبّب هذا الانزياح المتزايد نحو هذه الحقول في غلق الكثير من الأقسام الأكاديمية الخاصة بالأدب والدراسات الأدبية. كانت إحدى الستراتيجيات الالتفافية المعتمدة هي محاولة دمج الكثير من الأقسام الخاصة بالانسانيات في قسم واحد تحت لافتة (الدراسات الثقافية) ضغطاً للنفقات. من المعروف أنّ المؤسسات الغربية - الأكاديمية وغير الأكاديمية - تعتمد معايير إجرائية تقوم على حساب العوائد ؛ لذا فهي لن تتردّد في تعديل برامجها تبعاً لمستجدات الواقع، ولن تركن أبداً إلى سياسات قديمة بدعوى الحفاظ على أنماط ثقافية محدّدة.
ليس هذا الأمر غريباً على الحلقات الثقافية خارج النطاق الأكاديمي. يمكن في هذا الشأن مراجعة حلقات مسلسل ذي حلقات ست عنوانه (CHAIR)، عرضته منصّة نتفلكس، وسنتعلّم منه الكثير فيما يخصُّ طبيعة العلاقات التنافسية السائدة بين القدماء والمحدّثين في نطاق الدراسات الأدبية في جامعات العالم، وأظنُّ أنّ متابعة هذا المسلسل ستكشف لنا الكثير عن المخفي والمستور تحت ستار براق من النزاهة الأكاديمية المفترضة.
* * *
لو شئنا إختيار إسم عالمي ليكون مثالاً على هذه الانتقالة المشهودة من حقل النقد الأدبي إلى حقل الدراسات الثقافية فلا أحسبُ أننا سنختلفُ في أنّ (تيري إيغلتون Terry Eagleton) هو المثال الأعلى في هذا الشأن. ليس هذا الاختيار مسألة ذائقة شخصية أو إعجاب عابر ؛ بل ثمة شواهد تدعم هذا الاختيار، وهي شواهد نستقيها من طبيعة مؤلفات الرجل، والتضاريس الفكرية التي عمل على تناولها.
لاأظنُّ أنّ الناقد الأدبي والمنظّر الثقافي البريطاني (تيري إيغلتون) يمكنُ أن يهدأ يوماً أو يركن لراحة موهومة بالنسبة للمشتغل في حقل الدراسات الثقافية. لم تمرّ سنة خلال العقد الماضي وحتى يومنا هذا إلا وكان له كتابٌ منشورٌ في موضوعة ثقافية دسمة، ويبدو أنّ مشروعه المشترك مع جامعة ييل الامريكية المرموقة صار علامة مميزة في حقل الدراسات الثقافية الراهنة.
إيغلتون ماكنة عملٍ لاتهدأ، يقودها شغفٌ لاحدود لمدياته. أتخيلُ أحياناً أن ايغلتون يمكنُ أن يعبر شارعاً ويرى قطة على الرصيف، وحينها سيعملُ عقله لحظياً على تحويل هذا المشهد الساكن الذي قد لايثيرُ شيئاً لدى آخرين إلى موضوعة ثقافية كاملة. دعونا نتأمّلْ بعض عناوين كتب إيغلتون التي نشرها خلال العشر سنوات الماضية أو نحو ذلك وسنرى المديات الشاسعة لمنطقة اشتغال ايغلتون في تضاريس الفكر الانساني:
- عن الشر On Evil، 2011 (ترجم إلى العربية)
- الحدث الأدبي The Event of Literature، 2012 (ترجم إلى العربية)
- عَبْرَ البِرْكة Across the Pond، 2013
- كيف نقرأ الأدب How to Read Literature، 2013 (ترجم إلى العربية)
- أملٌ من غير تفاؤل Hope without Optimism، 2015
- الثقافة Culture، 2016 (ترجم إلى العربية)
- المادية Materialism، 2017 (ترجم إلى العربية)
- تضحية راديكالية Radical Sacrifice، 2018) ترجم إلى العربية)
- الفكاهة Humour، 2019 (ترجم إلى العربية)
- المأساة (التراجيديا) Tragedy، 2020
أحدث كتب إيغلتون في هذه السلسلة المبهرة من الكتب التي تتجاوز الثيمات الأدبية إلى فلسفات الأفكار والدراسات الثقافية العامة هو كتابه الذي إختار له عبارة (ثوريون نُقّاد Critical Revolutionaries) لتكون عنواناً رئيسياً طافحاً بروح الثورة الفكرية التي تشتعل جذوتها في عقله ولم تهدأ منذ بواكيره الأولى، ثمّ جاء العنوان الثانوي (خمسة نقّادٍ غيّروا الطريقة التي نقرأ بها) ليكشف عن جوهر مسعى إيغلتون في هذا الكتاب. الكتاب منشور في شهر نيسان (أبريل) 2022 عن مطبعة جامعة ييل الأمريكية.
إعتمد ايغلتون في هذا الكتاب مقاربة غاية في البساطة: مقدّمة مع خمسة فصول، كلّ فصل معنونٌ بأسم الناقد مدار البحث. ربما تكون مقدّمة إيغلتون التي إمتدّت على ثماني صفحات هي العلامة الفارقة في هذا الكتاب عن سابقيه ؛ فقد عُرِف عن إيغلتون مقدماتُهُ المقتضبة. النقّاد الخمسة الذين تناولهم ايغلتون بدراسته (أو باستذكاره النوستالجي إذا شئنا الدقة) هم: تي. إس. إليوت، آي. أي. ريتشاردز، ويليام إمبسون، إف. آر. ليفز، رايموند ويليامز. إختتم إيغلتون كتابه بحشدٍ مكثّف من الهوامش التوضيحية التي تلقي أضواء كاشفة على حيثيات مخصوصة.
وأنا أقرأ هذا الكتاب في نسخته الانكليزية تحسّستُ في غير موضع النبرة النوستالجية التي تعتمل في روح إيغلتون، بل وحتى – ربما – بعض الشعور بالذنب لما آل إليه وضع النقد الأدبي المعاصر، ونكادُ نلمحُ هذه الحقيقة من السطور الأولى للتقديم:
« القناعة التي ينطوي عليها هذا الكتابُ هي أنّ تقليداً حيوياً في النقد الأدبي بات يتهدّده خطرُ الاهمال. يصحُّ هذا الأمر – وإن كان إلى حدود معيّنة – في الحقل الأكاديمي مثلما يصحُّ في نطاقات أوسع بكثير في العالم الأدبي. لستُ أرى سوى قلة من طلبة الأدب اليوم يتوفّرون على معرفة رصينة بعمل آي. أي. ريتشاردز على سبيل المثال، وربما يصحُّ الأمر ذاته على أساتذتهم !! ؛ لكن برغم ذلك فإنّ النقّاد الخمسة الذين أتناولهم بالدراسة في هذا الكتاب يُعدّون بين النقّاد الأدبيين الاكثر أصالة وتأثيراً في العصر الحديث، وهذا سبب أراه كافياً لكي يكونوا هم وليس سواهم بين خياراتي المفضلة للدراسة..... «.
يؤكّد إيغلتون في موضع آخر من التقديم أنّ هؤلاء النقّاد الخمسة يمثلون هيكلاً فكرياً ذا خصوصية مميزة تُعدُّ أحد معالم القرن العشرين الأدبية المتفرّدة ؛ فقد كانوا جميعاً - باستثناء إليوت - أساتذة في قلعة كامبردج الأدبية الراسخة، وكانوا جزءً من ثورة نقدية نقلت الدراسة الأكاديمية للأدب إلى مستوى جديد غير مسبوق.
لستُ أعتزمُ هنا الحديث عن تفصيلات محدّدة في أطروحة إيغلتون في هذا الكتاب، بل أننا إذا استثنينا الأطروحة النوستالجية فلاجديد في هذا الكتاب ؛ لكن ثمّة دوماً نمطٌ من الانشداد الفكري لما يكتب إيغلتون حتى لو كان في موضوعات تبدو بديهية ومكرورة. يلمحُ القارئ في هذا الكتاب إستكمالاً لرؤية إيغلتون في نقد أطروحات مابعد الحداثة، وهو مابدأه في كتابه (أوهام مابعد الحداثة) واستكمله لاحقاً في كتاب (مابعد النظرية)، والكتابان مترجمان إلى العربية.
* * *
لاضير في أن يبدي أحدنا نزوعاً نوستالجياً بين الفينة والأخرى ؛ فليس في هذا عيب أو منقصة. ثمّ أنّ إيغلتون كاتبٌ ذو أفقٍ إنساني ممتد من غير تقييدات آيديولوجية أو سياسية، وهو قادرٌ على امتاعك حتى لو إختلفتَ معه ؛ وهنا تصبح المعادلة واضحة: إذا أضفنا المتعة للشحنة النوستالجية التي يفجرها إيغلتون في عقولنا عندما يعيدنا إلى أيامٍ قرأنا فيها كتاب (فائدة الشعر وفائدة النقد) لإليوت، أو (سبعة أنماط من الغموض) لويليام إمبسون، أو (التقليد العظيم) لإف. آر. ليفز، أو (الأدب والمجتمع) لرايموند ويليامز، أو (مبادئ النقد الادبي) لريتشاردز،،، فإنّ هذا سببٌ كافٍ يدفعنا لقراءة إيغلتون بمزيد من الشغف والحماسة الفكرية.
* واضحٌ أنّ عنوان المادة وظّف عبارة (الغابة المقدّسة The Sacred Wood) فيه، وهو عنوان مجموعة من مقالات في الشعر والنقد كتبها إليوت ونشرها عام 1920