حيدر المحسن
يختصّ أحد فروع الرّياضيات بتحليل الحوادث العشوائيّة، أي تلك التي تقوم على مفهوم الاحتمال وتوفر الصّدفة أو عدمها، ووضع العلماءُ -أشهرهم هو عالم الرياضيات كولموغوروف- قواعدَ يجري فيها حسابُ إمكانيّة وقوع الحدث. ويوجد لدينا في الواقع الكثير من التّطبيقات التي تتمّ فيها اختبارات عشوائية، منها لعبة القمار والروليت ورمي الزهر، وغيرها، والفوز هنا يعود لا إلى جهد عقليّ أو عضليّ أو قلبيّ يقوم به اللاعب، ويفعل الحظّ الدور الأكبر.
هل يمكن قراءة الواقع السياسي الراهن في العراق وفقا لنظرية الاحتمالات؟ كل شيء جائز في عالمنا، كما أني لست مختصا في شؤون السياسة، ولهذا اخترتُ الكلام عن الموضوع من وجهة نظر الأدب، لعلّي أفلح في تقديم صورة قريبة عن المشهد.
للقاصّ والرّوائي لؤي عبد الإله قصة صار اسمها عنوانا للمقال، منشورة ضمن مجموعته القصصية الثانية “رمية زهر”، وفيها يضع القاصّ بطله أمام خيارات في مراحل عديدة من حياته، بصورة تشبه امتحانًا عليه اجتيازُه بنجاح. فعندما كان طفلا كُتِبَ عليه أن يختار بين بيت أبيه مع زوجته الثانية، أو أن يبقى مع جدّته وأخواله، بعد وفاة أمّه. لقد أسكنه القدر في نوعين من المعيشة؛ الفوضى والفقر في بيت الجدّة، يقابلها ترف العيش في بيت الأب، وعلى الطّفل تفضيل أيّهما على الآخر. بعد إكماله دراستَه الثّانويةَ، يحيّره قدره بين الفيزياء أو التّاريخ البشريّ: «سأظلّ طيلة سنوات دراستي الجامعيّة مشدودا إلى الموضوع الذي تخلّيتُ عنه”. يشير الطّبيب النّفسيّ “باري شفارترز” إلى هذا السّلوك الخاصّ ويدعوه “مفارقة الاختيار”: نحن نقدّر الاختيار ونريده بشدّة رغم حقيقة أن كثيرا من الاختيارات يمكنها أن تقوّض شعورنا بالسعادة. لم يتعرّف لؤي عبد الإله على هذه النظرية وقت كتابته القصة، لأن كتاب شفارترز
(The Paradox of Choice) صدر عامَ 2004، بينما يعود تاريخ «رمية زهر» إلى التسعينات، وهذا يؤكد أننا نبلغ الحقيقة بواسطة الأدب ونحن نسير على الطريق الأقصر والأسهل. ثم يتزوّج الرجل، بطل القصة، وتحمل امرأته ذكرا وأنثى، وتسوء حالتها الصحيّة، وتقرّر الطبيبة إسقاط أحد الجنينين، والقرار الذي عليه اتخاذه سوف يترك ندبة في قلبه تعيش معه طوال الوقت. تتكرّر لعبة الورقتين الحمراء والسوداء القدرية معه عند الحصول على العمل، وعند اختيار السكن، وكذلك في اختيارات الحب. يتساءل الكاتب: “هل يمكن تقسيم الناس إلى مجموعتين، أولئك الذين لا تضع الحياة في طريقهم سوى خيار واحد، وأولئك الذين ترمي إليهم في كلّ منعطف بورقتيْ لعب سوداء وحمراء، وعليهم اختيار واحدة منهما”. يصاب أعضاء الفريق الثاني بعقدة يدعوها القاصّ بالتردّد، ويصفها لنا بأنها كانت مثل “لازمة معذبة تسكن في ثنايا يقظته ونومه”، وهي نفسها التي يدعوها الطبيب النفسي شفارترز “مفارقة الاختيار”. ليس هناك اختيار قسريّ وآخر طوعيّ، ذلك أننا -والعبارة للفيلسوف الفنلندي فرانك مارتيلا- «إذا كان يمكننا الاختيار، فمن المرجّح أننا سنقوم به”. ويختم لؤي عبد الإله قصته بمشهد تُرمى فيه الورقتان الحمراء والسوداء أمامه، بكل قسوة، مثلما رُميت أمامنا نحن العراقيين في الماضي القريب والبعيد، ومثلما نجدها أمامنا على الطّاولة في هذه الأيام. كان يقود سيارته في طريق مرتفع يقع بين هاويتين: «إلى يساري يسكن البحر، وإلى يميني قرى تتناثر في الوادي”. وعندما يتجاوز شاحنة حمل، تظهر له سيارة قادمة. أيّ قسوة يقوم بها القدر معنا في بعض الأحيان؟!: «لم تكن في اليد أية لحظة لاتخاذ قرار. هذه المرة، تُرمى أمامي ثلاث ورقات بدلا من واحدة، وهذه المرة سألعب بطريقة مختلفة كليا». هي طريقة جديدة في الاختيار، وتُدعي بالسي بند، أو الثلاث ورقات، يحرّك فيها اللاعب الخصم يديه بسرعة محاولا إخفاء الورقة التي تضمّ صورة الملكة، فهل يفوز بها بطل القصة، كي ننجو معه نحن العراقيين، والجواب يقرّره السّطر الأخير من النصّ: «ها أنذا أغمض عينيّ وأترك المقود طليقا، ليختار بالنيابة عني ورقتي الأخيرة”.
جميع التعليقات 1
د .ماجدة سعد
أسلوب سلس ومشوق ،لكن أهم ما يلاحظه القارئ في مقلات د حيدر هو الربط المتميز بين مواضيع من حقول انسانية وعلمية مختلفة ،لتتكشف للقارئ في النهاية صلات عميقة لم تلحظ من قبل.