باسم عبد الحميد حمودي1لم يدر في خاطري يوما -وأنا بعد بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة – إني قادر يوما أن أصل إلى روما , القاهرة , كازا بلانكا , أكادير, وسائر المدن التي زرتها وأنا بين الأربعين والخمسين . كان جواز السفر بالنسبة لي أمنية لا أظن أنها ستحقق يوما, وكان الحلم بالحصول عليه – سالفة من السوالف التي قد تروى ولكنها غير قابلة للتحقق .
بدأت أشكالية فوبيا جواز السفر لديّ من إرسال مديرية التحقيقات الجنائية على شخصي الضعيف , وأنا بعد في الصف الرابع الأدبي . كان بيتنا في محلة الست نفيسة , عصراً في حوالي الخامسة كان الجميع في الدار عندما سمعنا دقات الباب .. كانت دقات خفيفة وكان شاي العصر مع جبن الأكراد قد بدأت الوالدة بأعدادهما وقد خرج الوالد من السرداب ليجلس على حصيرة منتقاة في طرار الحوش ( الجانب المسقف من الدار الذي يشكل مع الدلكات التي ترفعه مجرد حيّزا بنائيا يسبق ابواب غرف الدار الداخلية ) أسرعت نحو الباب , فتحتها , السلام عليكم , عليكم السلام , هذا بيت السيد فلان ؟ نعم , آني من التحقيقات عمو , وين سيد فلان ؟ انا , بكرة ساعة عشرة تجي للاستعلامات , أحنا ننتظرك وهذي ورقة تبليغ وقّعها . تم ذلك وأنا مندهش وعدت بورقة التبليغ إلى أبي الذي كان يرتشف الشاي بهدوء , قرأها الوالد ثم سألني : هل قمت بشيء لا أعرفه , ام دخلت حزبا ممنوعا ؟ كان جوابي النفي , وصدقت الوالدة على كلامي : (( ابني واعرفه ما راح يورطنا مثل ما ورّط عدنان أهله )) ورد الوالد أن عدنان –ابن أخته والمحكوم لمدة عشر سنوات لانتمائه للحزب الشيوعي – لم يورط أحداً سوى نفسه وأن والده عبد الله ما زال موظفا في الحلة ولم يمسه أحد بسوء , واستمر الحديث بين الوالدين وأنا صامت , انتظر النتيجة . التفت الوالد أليّ وهو يقوم ليرتدي ملابس الخروج : (تذهب معي الآن إلى بيت المفوّض ادهم , هو مفوض بالتحقيقات أذهب وارتدي ملابس الخروج ) وأسرعت لأنفذ وخرجت مع الوالد إلى بيت هذا الصديق الذي لا أعرفه , كانت داره تقع في ( دربونة متطلع ) زقاق منقطع مقابل بيت دروش .استقبلنا الرجل بالدشداشة ( لباس الكرخيين الوطني آنذاك ) ورحب بالوالد ترحيبا حارا ودعانا للدخول , البيت شرقي ويلي الباب مجاز طويل ينتهي بغرفة الاستقبال قبل أن ينفتح البناء على الحوش ( فناء البيت الداخلي وهو الفناء المشابه لبيتنا ) وتقع وسط الحوش البقجة ( الحديقة الداخلية ) التي تحيط بها غرف المنزل التي تفصلها عن البقجة والفضاءات الداخلية المسقفات(الطرار باللغة البغدادية) التي تقف في بواباتها تلك الأعمدة الخشبية ذات التيجان التي ترفع جزءا من سطح المنزل ( الدلكات ) .بعد الترحاب اطلع السيد أدهم ( وهو الرجل الذي كنا نزوره )على ورقة التبليغ وأنا لا أكاد افهم ما يحدث سوى أني مدان بشيء,واتفق ادهم مع الوالد رحمه الله على حضورنا الى مقر التحقيقات الجنائية غدا في الحادية عشرة .كانت إجازة الوالد من مدرسته يسيرة فمدير المدرسة الأستاذ عباس عبد الرحمن شقيق ادهم و صديق الوالد الصدوق وشريكه في رحلاته الى لبنان وايران ,اما أنا فقد تطلب الأمر قدوم الوالد إلى المدرسة ومقابلة مدير ثانويتنا يومذاك وأظنه كان الأستاذ رفيق حلمي أو الأستاذ عبد المجيد حسن ولي .أخذني الوالد إلى بناية التحقيقات ( الأمن العامة بعد ذلك ) وكانت تقع في شارع النهر أيامها ,دخلنا إلى غرفة المفوض ادهم وكان يشغلها مع مفّوض آخر وهما بالملابس المدنية , جلس والدي شبه مستريح ولكنه غير آمن ,,اخرج المفوّض الثاني ملفا ضخما مكتوبا على غلافه الخارجي اسمي الثلاثي ,وقال لي المفوض سعد-وكان هذا هو اسمه - : ((كل هذا الملف خاص بك وبتحركاتك)) والتفت الى والدي مستنجدا لكنه لم يكن في وضع يستطيع فيه عمل شيء سوى الانتظار , اخرج المفوض سعد من الملف ورقة قرأ لنا منها تفاصيل صحيحة :صديقاك فاروق نافع العزاوي وحميد أحمد الجودي, قلت له : هذان زميلان ونحن في صف واحد , لم يجبني ولم أذكر زملائي الآخرين لكنه قال لي وهو يقرأ في الورقة – التقرير أني اراسل المدعو عبد اللطيف بندر اوغلو من طوز خورماتو وزهدي الداوودي من كركوك ومالك الر كابي من البصرة وطارق أبراهيم من بغداد , لم انكر ذلك وقلت له اننا نتبادل الطوابع والمعلومات, لم يهتم المفوض سعد بكلامي والتفت إلى والدي قائلا : (( مراسلات ولدك امتدت الى الدول فهو يراسل عفاف قنواتي من بعلبك وعصام الزعيم من دمشق وكمال إسماعيل صبري وغيره من مصر .. اليس كذلك ؟ )) أكدت على كلامه وقد بدأت أشعر بخوف حقيقي عندما ذكر اسم كمال هذا .هنا قال لي أدهم : لم كل هذه المراسلات ومن أنت حتى تشغل نفسك بهذه السوالف ؟ هنا قلت لهما: أكثر الشباب يراسلون ويتبادلون الطوابع والصور والمجلات تنشر أسماء هواة التعارف فماذا فعلت أنا ؟ سأجلب لكما
حياة ومدن وأصدقاء.. مدن البريد
نشر في: 10 يوليو, 2010: 05:11 م