TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: أبٌ ثانٍ

مرساة: أبٌ ثانٍ

نشر في: 10 أغسطس, 2022: 12:00 ص

 حيدر المحسن

«تأوّه، وكان تأوّهه لغتَه كلّها

وسالت دموعه على وجهٍ لم يعد وجهه»

(أوفيد. التحولات)

كان البيت يغرق في صمت كبير وسكون عميق. سمع الطفل أصواتاً مبهمة. هل أمّه تنتحب؟ لا يدري، فقد اختلط في هذه الأيام كلامها وتنهداتها ونحيبها، ولم يعد بمقدوره التفريق بينها. كان يجلس بجوار النافذة ويتطلع إلى أشجار الشارع وهي تلتفّ في ملاءة اللّيل، وأعشاب الرصيف تغرق في ماء أحمر. هنالك شيخ يمشي على الرصيف بخطوات ثقيلة وبطيئة. الشارع فارغ إلّا من اللّيل والمطر، والضّوء فيه يخبو وتشتدّ الرّياح. توقّف الشّيخ قرب الشّجرة القريبة من النّافذة، حيث يجلس الطّفل. في تلك اللّحظة كسر الصّمت في البيت صراخ أطلقه أبوه. عندما يغضب فإنه يقول كلاما لا يفهمه الطّفل، وكان يتشاجر مع أمه ويضربها بقسوة لأدنى سبب. لماذا الطّعام بارد، ولماذا هو ساخن، وأين اللّحمة، وأين صرفتِ النّقود...؟

قرّب الطّفل وجهه من زجاجة النّافذة، وصار الشّيخ بمواجهته تماما، وجهه معروق شاحب، سمرته الشّديدة تختلف عن سحنة أبيه الحليبيّة الصّافية، وله شارب شائب شائك. بيدين مرتعشتين أخرج حبلاً من جيب معطفه، ورمى عقب سيجارته بعيدا، ثم تسلّق الشّجرة وشدّ الحبل بغصنها الغليظ. كانت الشّجرة مضيئة رغم الظّلام، واشتدّ وابلُ المطر، وتعالى صياح أبيه وأنين أمّه في الوقت نفسه. إنّه يرفسها على وجهها، ويلكمها، ولاحظ الطّفل خيطا سائلا من الدّم يقسم وجهها، مع خيط من الضّوء يقسم وجه الشّيخ إلى نصفين، مضيء ومعتم، والمطر يغمر شَعره القطنيّ مثل ماء نقيّ، وكان يشرب مطرَ دموعه البارد والأسود. أدار الحبل بصورة أنشوطة حول رقبته النّحيلة والطّويلة، وثبّتها بقوّة، وتنهّد الطّفل في تلك اللحظة وشعر أنّ تنهّده ميّت في صدره. المطر ثقيل كالرّصاص والرّيح ثلج ساخن. هوى الشّيخ في فراغ اللّيل الذي يملؤه الثّلج والمطر وصراخ أمّه، تدلّى من الشّجرة مثل بندول يهتزّ دون إيقاع، وظلّه يهتزّ هو الآخر ووجهه هادئ كوجه دمية، إحدى عينيه مائلة والأخرى تدور كأنّما تفحص المكان، تفتّش عن الطّفل الذي بدأ يشعر بحنين طاغ يشدّه إلى هذا الرّجل الغريب. هل يقبل أن يأخذ مكان أبيه؟ هل يوجد أبٌ بديل في العالم، أبٌ ثانٍ؟ كانت أمّه تهرب في تلك اللّحظة من الثّور الهائج الذي يلاحقها في حجرات البيت. إنّه لا يستطيع أن يفعل شيئا للاثنين؛ أمّه التي تكوّرت في الزّاوية وهي تحمي وجهها من لكمات أبيه، والشّيخ الذي استكان واقفا في الهواء ووجهه منحوت من ظلام رائب، والأسى محفورٌ في محيّاه. تنبّه الطّفل إلى أنّ صوت أمّه لم يعد يشبه صوتها، كما أنّ ملامح وجهها وهي ممدّدة على الأرض كأنّها لامرأة غريبة، وذراعاها استقرّا عند الجانبين، وشعرها المبعثر يدثّر صدرها العاري. لمع ضوء ضئيل في عين الشّيخ المشنوق، وكان الوحل على حذائه يغسله المطر. هل قبل دعوته إليه أن يكون ابنه؟ ثبّت الطفل عينيه على جانب الشّجرة النّائم في الظّلام، وكان المطر ينهمر وأجراس الرّياح تقرع اللّيل. بعض شعاع ابتسامة في وجه الشّيخ ينتقل الآن إلى وجه أمّه، مثل شِرْكَة حنان صارت واكتملت في هذه الثّواني القليلة بين الثّلاثة؛ الأمّ والطّفل وأبيه الثّاني، وكان الطّفل يودّ أن ينسى كلّ شيء في الوجود غير هذه العلاقة الحميمة الغريبة والجديدة، كلّما فاتتْ الدّقائق زادتْ وصارت قوية أكثر. فتح النافذة، وظلّ يتطلع إلى الرّجل المشنوق كأنّه أبوه الذي كان يفتقده طوال الوقت، وها هو يعثر عليه الآن، وإن كان واقفا منتصبا مثل تمثال مصنوع من الحبّ، يتحدّى الموت والظّلام والمطر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram