طالب عبد العزيز
المصادفة وحدها قادتنا، نحن الثلاثة، الى فندق جيهان كردي، بمدينة لاهيجان، التي تقع بين الجبال، في شمال غرب القارة الايرانية. كنت قد أتيته وأقمت فيه، قبل اربعة أعوام، صحبة صديقين، ومن مدخله الجميل الى إدارته أخذنا صاحبُه بابتسامته التي تذكرتها الى المبنى المنفرد والملحق بالفندق، وسط الحديقة،
التي لم تعلُ اشجارُها كثيراً، ولم يمح من قرميد بيتنا الصغير إلا القليل. عند الممشى الرطب أشار إلى أنْ هذه دارتكم، وفي مثل خيط من حلم شفيف تنبهت الى أنني كنت هنا ذات يوم، وكمن يتحسس أصابعه عقب خدر خفيف، أعدتُ عليَّ قراءة القصيدة التي كتبتها هنا:
(لا أحدَ في “لاهيجانَ” يبيعُكَ العطرَ / همْ يعيبونَ عليكَ ذلك: إذا سألتهم / خلفَ كلِّ ذاهبةٍ للسوق شجرةُ ليمونٍ مزهرةٌ / وبقدّاحٍ كثير.. / وتحتَ كلِّ قميصِ صبيّةٍ في المدرسة غصنُ برتقالٍ / يميسُ، وبقدّاحٍ كثير.. / عنّدَ كلِّ متجّرٍ للُعَبِ الاطفال شجرةُ نارنجٍ / تنحني، مرحبةً بكَ، وبقدّاحٍ كثير.. / لاهيجانُ امرأةٌ، لا أحدَ يجرؤ/ يسألها عن عطرها الازلي).
نحن في العاشر من آب، كان (مرتضى) الفتى الفارسيُّ الاسمر، الذي حشرنا في بغلته البيجو، وجاء بنا من طهران بعد ظهر الخميس الماضي، قد أخذنا الى قرية صغيرة، خلف الجبال، اسمها (ماسولة) فيها شلال ماء، وسط غابة كثيفة، لم نبق فيها طويلاً، فقد اكتشفتُ بانني زرتها من قبل، لذا تعجلنا بمغادرتها الى أردبيل، ومنها أخذنا الى قرية جبلية أخرى اسمها (ماسال) التي لم يخلق مثلها في الخيال، فقد فاجأتنا غابة الجوز والمشمش فيها، وداهمنا المطر على طاولات مطعمها بعد أن أحاط بنا الضباب، ودونما دراية منا جاءنا صاحبه باسياخ اللحم حاراً، وبالارغفة مخبوزة ومرققة قلنا: هذا مجلس لا نحيط مباهجه إلا بفتح الزقِّ، زجاجة العرق المحلي، التي جاءنا بها الفتى الصادق، بطعم الفاكهة، كان السائق الذي جاء بنا قبل أربعة أعوام قد قال لعماد زينل بأن أهل لاهيجان أصدق سكان الجبال. هل قطَّرَ بائعه كما ينبغي؟ لكنه فعل فعلته،فدارت الرؤوس، حتى صرنا نرى الوادي العميق دارةً، وموقد بائع الذرة مدفئة، والفسحة تحت شجرة التين منامة فكان لنا كل ذلك.
تتيح البلاد الايرانية لنا نحن في العراق فرصة الهروب من مدننا الحارة، ومعاينة العالم بعين غير عراقية، ومع أنَّ الصورة النمطية عنها مشوهة في الذهن العربي، إلا أنَّ الوقائع لا تشير الى ذلك، فالبلاد الواسعة، المتقلبة في الجغرافيا، والمتباينة في تكوينها الاجتماعي توقفنا على حقيقة أخرى، حقيقة الشعب الحيّ، الذي ظلَّ يحتجُّ بمدنيته على نظامه السياسيّ، ويتذمر منه بحريته في العيش وانتقاء الاجمل. في مدن الشمال الايراني يستشعر السائح مفردات اللغة وهي تهمس بافواه النساء، هذا المدُّ المهموس الذي ينتهي به كل سؤال، وهذه العيون التي تستعلم دائماً كانها تبحث في المفردات عن مجهول أبديٍّ، حتى ليعتقد بعضنا بأن الطبيعة الجبلية تلقي باسئلتها على الناس، حيث يكون كل ما وراء الجبل مجهولاً وغامضاً.
كنت أشرتُ على صاحبيَّ المبيتَ في الوادي، في البيوت الصغيرة، التي أنشاها أصحابها لهذا الغرض، والتي ظلت تلوح ملونة وباردة من هناك، لكنهما آثرا العودة الى اردبيل، حيث سيكون الفندق أكثر أمناً، ففي الغابة المظلمة التي لا يتوقف المطر فيها لا يأمن السائح مداهمة وحوشها، قلت: وماذا عن الوحوش التي تتكالب على جسد بلادنا هناك؟ دعوني هنا.
في الليل، بعد الثانية من الفجر، تسللتُ خارج المنزل، الذي كان لنا في جانب الفندق، والمطل على البحيرة، فتحيط به، كانت المماشي رطبةً بمطر ما قبل منتصف الليل، والباب الى البحيرة مغلقة بقفل الحارس، أردت التطاول على سياجه، لكن المصابيح الزرق والحمر والبيض لألاءةً، ترصدني هناك، والبحيرة تفيض بالضوء. كانت المدينة ساكنة إلا من اثنين عاشقين، اتخذا من إحدى مصاطبها مجلساً، وظلا هناك، حتى خانت الشمس الحديقة والبحيرة معاً، وعاد الفجر على النائمين بالخبز البربري والقشطة والعسل وأقداح الشاي. في لاهيجان يرقق باعة الارغفة النهار، ولا يملُّ الانتظارَ سائقو المركبات، فهم تحت شلال الضوء والمطر حتى الصباح.