TOP

جريدة المدى > عام > كتابان وأربع فيلسوفات

كتابان وأربع فيلسوفات

نشر في: 16 أغسطس, 2022: 10:53 م

لطفية الدليمي

واحدةٌ من سمات الكائن البشري أنه كائن فلسفي. قد تخمد بعضُ جذوة المساءلة الفلسفية فيه عندما تتناهبه متطلباتُ إدامة الوجود البيولوجي ؛ لكن سرعان ماتستعيد روح التفكّر الفلسفي بعض جذوتها فيه عندما يتجاوز انشغالات إدامة وجوده في هذا العالم.

بدأت شواغل الفلسفة – كما نعرفها في أقلّ تقدير – مع الاطروحات الفلسفية الاغريقية التي إنطوت على تمايزات جوهرية صار معها من الممكن تصنيف طريقة التفكير الفلسفي لدى الانسان بأنها طريقة أفلاطونية أم أرسطوية. شهدت الدفقة الفلسفية بعضاً من الانكفاء مع تعاظم حركة التنوير الأوربي وصعود نجم التفكير العلمي والثورة الصناعية، ثم عدّلت الفلسفة مسارها بحيث تتناغم مع مفاعيل التغييرات الثورية التي جاء بها العلم والتقنية ؛ وهنا أراد بعضُ المفكرين والفلاسفة مع بدايات القرن العشرين قصر الانشغالات الفلسفية على وقائع اختبارية محدّدة وخاضعة للقياس حتى باتت الفلسفة من وجهة نظرهم أقرب إلى مبحث علمي. لم يقتصر الأمر على محاولة بعض الفلاسفة تحويل الفلسفة إلى « فلسفة علمية خالصة « ؛ بل راحوا يدرسون المحدوديات الكامنة في اللغة وحدود التفكير البشري المحكومة بهذه المقيّدات اللغوية، وكان من نتائج ذلك أن تغوّلت الفلسفة العلمية التي نشأت من تعاضد الفلسفة التحليلية (أو فلسفة التحليل اللغوي كما تسمى في الأدبيات الفلسفية) مع الفلسفة الوضعية المنطقية إلى حدّ باتت معه الأخلاقيات والميتافيزيقا ومباحث الفلسفة التقليدية تعدُّ مباحث غير منتجة. ظلّ أمر الفلسفة على هذه الشاكلة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم حصلت انعطافة كبرى عقب تلك الحرب وفي العقود اللاحقة التي تلتها، ولعلّ من المثير أن نشهد نوعاً من شيوع الاهتمام العالمي بالفلسفات التقليدية (مثل الرواقية) ومحاولة إحيائها بعد دراستها على ضوء مباحث معرفية جديدة (مثل علم النفس المعرفي). الانسان كائن ميتافيزيقي بعد كلّ شيء ولن يقنع بترتيب وجوده البشري ضمن نطاقات العلم والنظرة العلمية، وثمة قناعة سائدة بأنّ العقلانية العلمية الكاملة تنطوي على تبخيس وإفقارٍ لجوهر ميتافيزيقي كامن في روح الانسان.

* * *

لعلّها مصادفةٌ غريبة – أو فعلٌ مقصودٌ ربما – أن يصدر كتابان لايفصلُ بين موعدي نشرهما سوى بضعة أشهر، يتناول فيهما مؤلفو الكتابين أربعاً من أشهر فيلسوفات بريطانيا والعالم. الكتابان هما:

- الكتاب الأول: بِوسْع النساء بلوغُ شيء ما

- The Women Are Up to Something

لمؤلفه بنجامين ليبسكوم Benjamin J.B. Lipscomb. نُشر الكتاب في مطلع شهر تشرين ثاني (نوفمبر) 2021، ومن المفيد التدقيق في العنوان الثانوي المطوّل للكتاب حيث يكشف فيه المؤلف عن جوهر مسعاه: « كيف أشاعت إليزابيث آنسكوم وفيليبا فوت وماري ميغلي وآيريس مردوك الثورة في الأخلاقيات «.

- الكتاب الثاني: حيوانات ميتافيزيقية

- Metaphysical Animals

لمؤلفَتيْه كلير ماك كمهيل Clare Mac Cumhaillو راشيل وايسمان Rachael Wiseman. نُشِر الكتاب يوم 10 أيار 2022، سيكون أمراً مفيداً كذلك – كما هو الحال مع الكتاب السابق – أن نقرأ العنوان الثانوي الطويل للكتاب: « كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة «.

يكاد الكتابان يتماثلان في مقاربتيهما الفلسفيتين ؛ وقد يعترض البعض أنّ الكتاب الأول إنما يتناول مبحث الأخلاقيات وليس الفلسفة بعامة ؛ لكن سيكون واضحاً بعد قراءة الكتاب أنّ الأخلاقيات هنا يقصَدُ بها مبحث الفلسفة الأخلاقية. يروي الكتابان - بصيغة سيرية أحياناً، وأحياناً أخرى بصيغة مساءلات معمّقة لأطروحات فلسفية تأريخية – حكاية أربع نساء (هنّ آيريس مردوك Iris Murdoch و فيليبا فوت Philippa Foot و إليزابيث آنسكوم Elizabeth Anscombe و ماري ميغلي Mary Midgley) جمعتهنّ الأقدارُ الطيبة ليكنّ طالبات فلسفة في جامعة أكسفورد خلال الحرب العالمية الثانية. هناك وجدت أولئك النسوة عالماً بدا خالياً من الرجال الذين ذهبوا للحرب، وكان الباقي من الرجال يندرجون في فئتين: طاعنون في السن أو عاجزون عن خوض المساجلات الفكرية العنيفة. كانت أكسفورد حينها مكاناً يمكن فيه لصوت النساء ان يُسمَعَ على عكس واقع الحال قبل نشوب الحرب.

ماذا كانت أولئك الفتيات اليافعات سيجدن في أكسفورد لو إلتحقن بها قبل الحرب؟ تجيب إحداهن – وهي الفيلسوفة ماري ميغلي – بأنهنّ كنّ على الأغلب سيجدن عالماً فلسفياً يهيمنُ عليه بعضُ الشباب اليافعين والاذكياء، يتقدّمهم أي. جي. آير A. J. Ayer الذي صار كتابه اللغة والحقيقة والمنطق Language , Truth and Logic المنشور عام 1936 بمثابة الكتاب المبشّر الذي لاغنى عنه بالفلسفة الوضعية المنطقية Logical Positivism – تلك الفلسفة التي طوّرتها حلقة فيينّا المعروفة، ثم إمتدّت لتشمل كافة القارة الأوربية، وقد تقنّعت أحياناً بمسمّيات من قبيل الفلسفة الجديدة أو الفلسفة التحليلية. تقوم رؤية آير على أساس حاجة الفلسفة إلى حدّ فاصل يمكن أن يكون معياراً إجرائياً للتمييز بين الفلسفة الحقيقية وبين لغو الكلام (أو الفلسفة غير المنتجة). الفلسفة الحقيقية بموجب رؤية آير تتأسس على عبارات واضحة يمكن إختبارها حسياً في العالم الواقعي ؛ وبهذا تكون الفلسفة الحقيقية مسمّى أخر للعلم ؛ أما الفلسفة التقليدية (الاخلاقيات، الميتافيزيقا،،،،) وكذلك اللاهوت والجماليات والقيم والتشخيصات الذاتية فليست سوى أباطيل قول غير منتجة. لاشيء منتج بموجب هذه الرؤية سوى عالم العلم الصلب، البارد، الذي يمكن إخضاعه للإختبار.

قاومت كلّ من أولئك الفتيات الأربع، بأشكال مختلفة وأزمان مختلفة، هذا الإجماع الفلسفي السائد في أكسفورد. تساءلت فيليبا فوت: كيف يمكن للمرء أن يقبل بهذا الاتجاه الفلسفي للوضعية المنطقية وهو يرى صور معسكرات الاعتقال النازية الفظيعة؟ كانت آير يرى أنّ الانحياز الأخلاقي هو محضُ موقف فردي لاعلاقة له بعالم الوقائع ؛ وبالتالي هو تفضيلٌ أخلاقي لايخضعُ لقاعدة الصوابية أو التخطئة ؛ بمعنى أنّ ماقد يكون لديك صواباً من الناحية الاخلاقية قد لايكون كذلك لدى آخرين، وليس ثمة إجماعٌ يمكن بلوغه في هذا الشأن على العكس من الحال مع وقائع العالم الطبيعي. أكّدت فوت وزميلاتها وهنّ لم يزلن طالبات فلسفة في أكسفورد: أليس من الضروري تأكيد إجماعٍ أخلاقي على كون النازية خطأ، وأنّ مناهضيها على صواب؟ سعت هؤلات الفتيات - اللواتي سيصبحن أسماء لامعة في عالم الفلسفة لاحقاً – إلى بلوغ مقاربة فلسفية جديدة تناقضُ الوضعية المنطقية، وترى في مظاهر القسوة والشر في العالم أشياء ينبغي إخضاعها للمساءلة الفلسفية بمثل مايفعل العلم مع الصخور والانهار والحشرات.

يمضي القارئ مع المؤلفين في هذين الكتابين في متابعة حداية سردية مشوّقة عن أربع نساء لامعات يكافحن وسط أدغال أكاديمية مشتبكة للعثور على أصواتهن الفلسفية المتفرّدة خارج نطاق الدرس الأكاديمي السائد، وكنّ بالاضافة إلى مسعاهن الفلسفي يجتهدن لرسم صورة جديدة بديلة عن الكائن البشري ومكانته في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية.

لم يقدّم المؤلفون في هذين الكتابين أطروحات فلسفية ومساجلات فكرية وحسب ؛ بل ثمّة تفصيلات شخصية تخصُّ أولئك الفيلسوفات الاربع. كانت مردوك تفوق زميلاتها في الوقوع بشراك الحب وتعقيداته، وكانت عقب كلّ تجربة تشهدُ تغييراً فلسفياً تجاه موضوعة الصداقة والحب، وهو الامر الذي نشهدُ أثره واضحاً في كتاباتها الفلسفية والروائية اللاحقة، كما لايخفى على المتابع لأعمالها أنّ بصمات أفلاطون وتوماس الأكويني وفيتغنشتاين تبدو جلية فيها. على عكس مردوك - التي لم تنتسب إلى سلك الخدمة الجامعية الأكاديمية وفضّلت متابعة عملها كروائية فيلسوفة – فإنّ كلاً من آنسكوم وميغلي حازت شهرتها من عملها في نطاق الفلسفة الاكاديمية. تبدو ميغلي أكثر النساء الاربع تجذراً في العالم الفلسفي، ويُعرفُ عنها أنها بدأت نشر أول كتبها وهي في التاسعة والخمسين، ثمّ تتالت كتبها اللاحقة التي قاربت العشرين تباعاً أنهتها بكتاب عن سيرتها الذاتية.

تظلّ موضوعة أننا (كائنات ميتافيزيقية) مثيرة للتفكّر والتساؤل، وهي بعضُ ماتسعى له الفيلسوفات الأربع. نحن في نهاية المطاف لسنا محض كائنات تستخدم اللغة وتطرحُ الاسئلة وتوظّفُ التمثيلات الرمزية في حياتها (مثل الرياضيات والفن،،، إلخ) ؛ بل يوجد سعي ممضٌّ لديها نحو كلّ ماهو غامض ومتعالٍ على الوجود البشري. قد يجد بعضنا هوى في نفسه لاتخاذ موقف مناصر للفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية وبخاصة إذا ماعاش حياة هادئة غير حافلة بالكثير من الاضطرابات الحياتية والفكرية ؛ لكنّ كلّ من إختبر حياة عاصفة بالمتغيرات غالباً مايجدُ نفسه منحازاً نحو آفاق فلسفية أبعد من حدود فلسفة آير التحليلية. يتناغم مؤلفو الكتابين مع هذه الرؤية ويتشاركون القناعة بأنّ الحياة الحافلة بضروب الاهوال التي عاشتها هؤلاء النساء الفيلسوفات الأربع وسط جحيم الحرب العالمية الثانية فضلاً عن أدوارهنّ السياسية وعلاقات الحب العاصفة التي خضنها – كلّ هذا كان له أعظم الاثر في تشكيل مواقفهنّ الفلسفية اللتي طبعت حقبة مابعد الحرب العالمية الثانية وكان لها تأثيرها البيّن على مسار الفلسفة العالمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram