عدنان حسين أحمد

قليلة هي الأفلام العربية التي تُعنى بالطبيعة برًا وبحرًا وسماء. وعلى الرغم من التنوّع الجغرافي والمناخي للبلدان العربية إلاّ أننا نادرًا ما نجد مُخرجًا عربيَا يكرّس حياته لأفلام البيئة والطبيعة وما تنطوي عليه من حيوان ونبات وجماد. ومع ذلك القصور الواضح يطل علينا بين أوانٍ وآخر مُخرج عربي هنا أو هناك ليتحدث عن هذا الطائر أو تلك الشجرة، أو ذلك الحيوان الغريب.

وما علينا جميعًا إلاّ أن نشجّع تلك المحاولات على الرغم من بساطتها ومحدوديتها. وفيلم “الأشجار” للمُخرج السوري رمزي بشّور الذي يحمل الجنسية الأمريكية هو من هذا النمط الذي يُعنى بالأمراض التي تضرب أشجار الزيتون وتفتك بها. وبما أنّ الفيلم هو دراما كوميدية مطعّمة بحسٍ وثائقي رصين فيجب علينا أن نركّز على الجانبين معًا من دون أن نغمط حق الطرفين في هذه المعادلة الروائية والوثائقية في آنٍ معًا.

يمكن إيجاز الثيمة الروائية لهذا الفيلم القصير الذي تبلغ مدته 23 دقيقة لا غير بأن يحضر الدكتور بشير جنازة والده في ريف لبنان لكنه يكتشف المرض الذي يصيب الأشجار في قريته. ورغم أنّ طقوس العزاء المسيحي التي لا تختلف كثيرًا عن بقية الديانات السماوية والأرضية التي تقتضي احترام هذه المناسبة والالتزام باشتراطاتها المعروفة إلاّ أنّ الدكتور بشير سوف ينهمك بالبكتيريا ويهمل التقاليد والأعراف المتبّعة في المناسبات المُحزنة التي تناقش الموت بوصفه أخطر وأقوى فكرة في الوجود. أمّا الجانب التوثيقي فهو يرصد البكتيريا المُسببة لهذا المرض الذي يصيب بعض أنواع الأشجار مثل الحمضيات، والزيتون، والعنب، وإكليل الجبل أو “الروزمَري”. وخلاصة هذا التلاقح بين الروائي والوثائقي هو الذي يُسفر عن قصة سينمائية طريفة تجمع بين الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تتعاطى مع فكرة الموت من جهة وبين إنقاذ الأشجار التي تتعرض للموت أيضًا بواسطة الفايروسات أو البكتيريا الحيّة التي تُهلك الأشجار الأمر الذي يستدعي قلعها وحرقها كليًا لكي نتخلص من مخاطرها الجمّة على البيئة.

يمهد الدكتور بشير في مستهل الفيلم بالحديث عن “إدارة الآفات المتكاملة” Integrated pest management ومكافحتها ويورد مثالاً لبعض الحشرات مثل الدعسوقة التي تلتهم الحشرات الضارّة وتحدّ من انتشار الأمراض التي تفتك بالأشجار.

يكشف لقاء الإعلامية بالدكتور بشير عن ضحالة معلوماتها عن الجفاف وغيره من الظواهر الطبيعية فهي تعتقد أنّ الجفاف يعني غياب الأمطار أو ندرتها فقط بينما يحاول الدكتور أن يبيّن لها بأنّ الجو الحارّ يساعد على ظهور حشرات أكثر من الحدّ المعتاد. ثم تمضي الإعلامية في طرح أسئلتها الساذجة من قبيل:”هل ستمطر الدنيا قريبًا أم لا؟”. فيرد عليها:”نحن نستطيع أن نعرف فيما إذا كانت الدنيا ستمطر في غضون أربعة أو خمسة أيام، ولكننا لا نعرف إذا كانت ستمطر في السنة القادمة”! وفي خضم هذا النقاش العقيم مع إعلامية لا تفرّق بين الرطوبة والجفاف أو أسباب تساقط المطر وحدوث الفيضانات وما إلى ذلك من ظاهر طبيعية تأتيه مكالمة هاتفية يضطر بسببها لقطع التصوير فنفهم أنّ والده قد لاقى مصيره المحتوم وأنّ عليه أن يغادر المكان فورًا لحضور مراسم الدفن والعزاء. يجتمع الأهل والأقارب في بيت الوالد الذي انتقل إلى جوار ربّه فيأتي المعزّون تباعًا بما فيهم بعض القسس ورجال الدين ويتجاذبون أطراف أحاديث سريعة وخاطفة لا تُقلل الاحترام من روح الميت باستثناء الابن الدكتور بشير الذي يركّز جلّ اهتمامه على الأشجار والأمراض التي تصيبها الأمر الذي يثير عصبية عمّه الذي تحمّل كثيرًا ثم انفجر موبخًا إيّاه لأن حدث الموت الجلل لا يسمح بالحديث عن موضوعات جانبية ليس وقتها الآن. وحينما يأتي “أبونا” لغرض التعزية يسأله هذا الأخير عن مشكلة الجفاف الكبيرة لكنه يضع ثقته الكاملة بالله جلّ في علاه وأنّ العلي القدير لن يتركنا لوحدنا من دون أن يمدّ لنا يد العون والمساعدة. ومع ذلك فهو يقول بأنّ الزيتون قليل هذه السنة وأنّ لون الشجر قد تحوّل إلى الأحمر ولكنّ الله لن يتخلى عنّا. يستعير بشير سيارة أمه ويذهب إلى أكثر من مكان لأخذ عيّنات من أوراق الزيتون الجافة ويتمزّق بنطاله من الخلف، وينغمس في الحديث عن بكتيريا اسمها العلمي زايليلا فاستيديوسا تضرب العروق وتقتل الأشجار خلال مدة قصيرة جدًا. وحينما يتمادى الدكتور بشير في سلوكه يُوقفه العم عند حدّه ويطلب منه التزام الصمت والكفّ من الحديث عن البكتيريا والأشجار

يُنهي المخرج رمزي بشّور فيلمه بمشهد دوّي الرعد والصواعق التي أحرقت الجبل وكأنها وضعت حدًا لهذه الفايروسات القاتلة التي فتكت بالكثير من الأشجار المثمرة التي لا علاج لها إلاّ الحرق بألسنة النيران.

لقي هذا الفيلم ترحيبًا في عدد غير قليل من المهرجانات مثل مهرجان كليرمون فيران، وروتردام السينمائي الدولي، وكارلوفي فاري وفاز بعدد من الجوائز من بينها جائزة النقاد الخاصة. وتكمن أهمية هذا النمط من الأفلام لأنها تأتي في وقت يشتد فيها اهتمام العالم بأسره بتغير المناخ، ومعالجة التصحر، والجفاف، وشحة المياه العذبة وما إلى ذلك من موضوعات حسّاسة تهمُّ الناس الذين يعيشون على هذه المعمورة.

جدير ذكره أن تصوير هذا الفيلم قد تمّ في عدد من القرى البعيدة عن بيروت نسبيًا ولعل السبب الذي يمكن وراء اختيار هذه القرى أنها تشبه القرية التي وُلد فيها المخرج في سوريا على حد قوله في أحد اللقاءات الصحفية. أما طقوس العزاء فقد تلاعب فيها بعض الشيء ولكنه نقل جوهرها وروحها الخاصة التي قد لا تنطبق بالضرورة على هذه الشريحة المسيحية أو تلك. ومَنْ يُشاهد فيلم “الأشجار” سيكتشف من دون لأيْ أنّ رمزي بشّور يعِد بأفلام روائية ووثائقية كثيرة تراهن على المفارقة، والكوميديا السوداء، والنفس الفكاهي الساخر. أنجز بشّور عام 2016 فيلم يحمل عنوان “لا أحد يخرج منها حيًا”. وهو حاصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من كلية “تيش” Tisch للفنون ويقيم في نيويورك حاليًا.