علي حسن الفوازالبنية المؤسسية في الثقافة العراقية تعيش منذ عقود طويلة ازمة صناعتها وازمة ترويج بضاعتها وازمة وجودها كظواهر، اذ ظلت الصناعة الثقافية المؤوسسية بعيدة عن التأثير في تشكيل رأي عام ثقافي، وفي التوافر على فرص حقيقية للتأثير على قطاعات واسعة من الناس خارج ما تقترحه عليها الحكومات او المؤوسسات الدينية، او بعض انماط الثقافات الشعوبية(العشائرية والطائفية).
ان جلّ ما استطاعت ان تصنعه التشكلات الثقافية هو ظاهرة(الاحتفال)الثقافي، تلك التي كرست عبره النمط الاجتماعي بكل ملحقاتها كظواهر صوتية او اشاعات او خطابات في الادلجة المشوشة، او انماط اكثر استغراقا في المثيولوجيات والاساطير، فضلا عن اشاعة الانماط الثقافية ذات الترجعيات الوطنية(ثقافات المناسبات المحلية او الاسلامية او الانسانية) وهذا مايمنح التحولات الفاعلة في الحياة الثقافية طابعا فرديا مغامرا، او طابعا يقترن ببعض التجمعات الثقافية غير المؤسسية والتي وجدت من المؤسسة الكثير من النفور والطرد، ورغم بعض المسوح السياسية والايديولوجية التي تتبدى في هذه التجمعات وحتى المغامرات الفردية، الاّ انها كانت الاكثر حضورا والاكثر اثرا خلال العقود التي اقترنت بها حركات التجديد في الثقافة العراقية. الازمة المؤسسية في الثقافة تعكس في جوهرها ازمة الواقع السياسي، وازمة الدولة كبنية مؤسسية كبرى، وكذلك الطبيعة الطاغية للمؤسسات الدينية، وضعف وهشاشة البيئة التعليمية خاصة في مراحل التعليم العالي، اذ لم تستطع هذه البيئة طوال عقود ان تصنع ظواهر ثقافية كبرى يمكنها التأثير على الواقع الاجتماعي والثقافي، اذ ظلت هذه مؤوسساتها الحصينة بعيدة عن التفاعل مع تعقيدات المجتمع العراقي، وربما كانت اكثر استعدادا للاصابة ببعض عدوى الامراض الاجتماعية وبعض الانماط المشوهة للثقافات الشعبية، وهو ماحصل بالفعل عبر استشراء بعض الممارسات الاجتماعية والثقافية خاصة بين الشباب في مرحلة ما بعد انهيار النظام الديكتاتوري. كما ان ضعف البيئة السياسية وقهرية انماطها وطبيعة احزابها وتركيبة انظمة الحكم فيها، اسمهت مجتمعة في خلق اشكال معقدة للاستبداد، وللقهر السياسي، واحسب ان المرحلة الجديدة تكشف عن هشاشة البيئة السياسية وتعقيد البناء الايديولوجي للكثير من الاحزاب وسوء اداركها لاهمية البنيات المؤسسية في تعميق بنية الدولة، اذ ان اغلب هذه الاحزاب مازلت تعيش عقدة المعارضة، ولم تتحول بعد الى مجال الدولة في التعاطي مع اشكالات تفرضها واقعية الحاجة الى الدولة والى المؤسسات الفاعلة لقيمومة هذه الدولة بما فيها التشريعات التي تخص الثقافة(الحقوق والحريات وتنظيم الاعلام والملكية الفكرية) وكذلك تخص المؤسسات باعتبارها الاطر الادارية والتنظيمة للفاعلية الثقافية.ازمة استقلالية المثقفأزمة ادارة الثقافة ارتبطت كما قلنا بازمة مؤسساتها، خاصة وان الثقافة كخطاب كانت رهينة للمركزية الشمولية، وهذه المركزية اصطنعت لها مفهوم(التابع) في مصطلحات مابعد الكولنيالية، وهذا مايضع فكرة اعادة تأهيل الادارة الثقافية عبر اعادة فحص تاريخ الازمة التي عاشتها الثقافة العراقية والتي مازالت الكثير من صورها تتكرر في الواقع، ومنها ازمة الادارة التي مازلت مركزية وضاغطة، وشائهة في تعويم ثقافي وغير قادرة على التعاطي مع الازمات الحقيقية للثقافة كخطابات ومؤسسات وكهويات ونزوع لصناعة رأي عام، اذ مازالت الادارة الثقافية تكرر فكرة انتاج (الاحتفال الثقافي) والاستغراق في الكثير من التسطيح الثقافي الذي لايترك اثرا في بيئة ثقافية معقدة، مقرونا بما تملكه هذه البيئة من تاريخ عميق حاشد بالعقد ومركبات الصراع والمنافي وغيرها.وسط هذه التقاطعات يبدو المثقف وكانه(التائه) الباحث عن لحظته الحميمة، وعن ذاته المسحوقة بين عوالم تتصارع على الكثير من الاوهام، اذ لايملك هذا التائه/التابع القدرة على المواجهة والقدرة على صناعة حريته وبطولته المعرفية والاخلاقية وخطابه المستقل، لان المهيمنات المركزية مازالت تملك القوة التمويلية، ونمطية الخطاب القديم(المركزي) بمرجعياته التقليدية والذي لايؤمن بالبطولات الثانوية التي يصنعها المثقف في سياق بحثه الدائب عن الحرية، ومواجهته لرعب واوهام المثيولوجيا السياسية وتعقيدات الصراع الذي تفترضه كينونته المستفزة بكل ماتستدعيه من اسئلة واغترابات ومواجهات حادة.انتجت ازمة المثقف وازمة المؤسسة الثقافية ظواهر اخرى تمظهرت في توليداتها اشكالا عائمة لمؤسسات هامشية تنتمي الى الفضاء الثقافي لكنها لاتملك خصوصية واضحة واثرا فاعلا في الانتاج الثقافي، ولاتملك هاجسا بالتبشير لثقافات مدنية تؤمن اساسا بحرية الانسان المثقف واستقلاله واهمية دوره المعرفي والجمالي، اذ ظلت هذه(التمظهرات) اشبه ماتكون بالصرعات او المغامرات سريعة الانطفاء، خاصة وان اغلب مانزعت اليه هو اهتمامها بالاستعراض والحفل اللذين ارتبطا بصناعة ظواهر المثقف الدعائي والمثقف الاعلاني والمثقف الحزبي والمثقف الموظف وغيرها من الظواهر الاخرى التي لعبت ادوارا متفاوتة في تحويل العديد من المؤسسات الثقافية الى مؤسسات حكومية بامتياز او الى مؤسسات ايديولوجية بامتياز اخر، اذ كثيرا ما شاركت هذه المؤسسات بالحروب المصممة التي شنت على انماط معينة من الثقافات
أزمة الصناعة الثقافية العراقية.. أزمة مؤسسات أم أزمة ظواهر!!
نشر في: 11 يوليو, 2010: 09:11 م