لطفية الدليمي
عُرِف عن (كانتْ) حياتُه المنضبطة ؛ لكنّ ذلك الانضباط كان يُكسَرُ على مائدة العشاء. أراد (كانت) جعل مائدة عشائه محطة للاسترخاء العقلي والجسدي.
نقرأ في سيرة (كانت) أنه لم يكن يهتمُّ بطعامه باستثناء وجبة العشاء التي أرادها واحة يدعو فيها بعضاً من أصدقائه لوجبة قد تمتدّ ساعتين أو ربما أكثر، يتمتّعُ فيها الحضورُ بأطايب الطعام وأجْوَد أصناف النبيذ. أستطيعُ أن أتخيّل (كانتْ) وهو يناقشُ - مثلاً - موضوعة السلام العالمي وتأسيس منظّمة عالمية تعنى بشؤون الأمن العالمي في الوقت ذاته الذي كان فيه يتلذذ بلقمة لذيذة من صنف طيب من الطعام، أو برشفة منعشة من نبيذ معتّق.
لاأعرفُ إن كان (كانتْ) قرأ ملحمة كلكامش، ووقع ناظره على كلمات (سيدوري) المكتنزة بثراء العيش؛ لكنه بالنتيجة كان واحداً بين أفضل من عملوا بتوصياتها. لم يتزوّج (كانْت) لذا فهو لم يحتضن إمرأته المحبّة ولم ينجب أطفالا ليجد فيهم إمتداداُ طبيعياً له يمثلُ بعضاً من خلوده الجيني واستمراريته البيولوجية. لابأس في هذا. هو في أقلّ تقدير عرف معنى الصحبة الطيبة ومشاركة آخرين بعض لذائذ الحياة أكلاً وشراباً ونبيذاً معتّقاً وأفكاراً مشرقة ترتقي بالحياة. كانت مائدة عشاء (كانتْ) ميداناً إختبارياً تلتقي فيه أعالي الفكر بمباهج الحس، وتطلعات العقل برغبات المعدة. كان الجالس إلى مائدة عشاء (كانت) يستحيلُ خليطاً متوازناً من كائن أبيقوري ورواقي.
أظنُّ أنّ كثيرين سيشاركونني رؤيتي في أنّ الحياة الطيبة خليط متوازن من الأبيقورية والرواقية. قد تمرّ بنا لحظات مفصلية تعلو فيها الرؤية الرواقية للحياة التي تزهدُ بالأشياء حتى النبذ. الموت، مثلاً، وبخاصة موتُ من نحبّ، تجربة قاسية نشعرُ في خضمّها أننا أهدرنا وقتاً ثميناً لايعوّضُ جرياً وراء أشياء يمكن تعويضها، نزهدُ حينها بكلّ شيء ولاتكاد كلمات حكيم سِفْر الجامعة (الكلّ باطلٌ وقبضُ ريح) تغادر عقولنا بل تستوطنها استيطاناً مكيناً. الزمن وحده كفيلٌ بتطبيب خدوشنا النفسية، وبعدها سنعودُ شيئاً فشيئاً إلى سياق حياتنا التي إعتدناها. لايمكنُ للحياة أن تكون لوناً واحداً وإلا فإنها تستحيلُ جحيماً لايطاق.
الأبيقورية قرينة اللذة الحسية، والرواقية قرينة الزهد بأطايب الحياة: هذه هي النظرة السائدة، وهي نظرة تنطوي على أخطاء فادحة. اللذة قد تكون حسية وقد لاتكون، ويبدو أنّ التصميم الأعظم لكينونتنا البشرية جعل اللذة الحسية مدخلاً للذّات أعلى، عقلية الطابع، تعلو فيها القيمة الرمزية على التشخيصات المادية. هل تتخيّلون جائعاً يمكنُ أن يفكّر بموضوعة السلام العالمي مثلما فعل (كانتْ) ؟ الرواقية كذلك لاتعني الزهد السلبي بلذّات الحياة ؛ بل هي زهدٌ بالتعلّق المَرَضي بأشياء الحياة إلى الحدّ الذي يُنسينا لذّة اللحظة الحاضرة.
ربما قد تقتلنا الحسرة في سنواتنا المتقدّمة عندما نشعرُ أننا خسرنا أعماراً ثمينة لم نعشها بما تستحق. نكونُ حينها كمن أعطي جوهرة لم يعرف قيمتها وأساء التصرّف بها. أسباب كثيرة قد تكون سبباً وراء شعورنا القاتل بالخسارة؛ لكنّ ستراتيجية سلوكية واحدة يمكنُ أن تقلل خسارتنا هذه: كن أبيقورياً في لحظتك الحاضرة، ورواقياً في رؤيتك للمستقبل. عش الحاضر بكلّ لذّاته المتاحة، وخفّف من شدّة قبضتك على ممتلكاتك. لاتجعل ممتلكاتك قيداً ينوء به عقلك ويثقلُ روحك فتكون كمن يبيعُ لحظته الحاضرة المؤكّدة بلحظة مستقبلية قد تأتي أو لاتأتي، وحتى لو أتت تلك اللحظة؛ فهل ستكون أنت أم إنساناً آخر بترتيبات ذهنية مختلفة ورؤية ليست رؤيتك قبل عشرين أو ثلاثين عاماً؟ تلك مقامرة لايصحُّ أن تجعل من نفسك ميداناً تجريبياً لها.
فائدة عظمى تلك التي ستجتنيها لو جعلتَ من نفسك ضيفاً إفتراضياً على مائدة عشاء (كانتْ). أؤكّد لك هذا.