طالب عبد العزيز
نصحني صاحبُ ماكنة الحفر بأنْ أجد مزرعةً في مكان آخر، يتوافر الماء في أعماقها، فاقترح الزبيرَ مكاناً مثلاً، بعد أن حاصرتني وإيّاه الشكوكُ بوجود مياه جوفيّة في بستاني الصغير، بابي الخصيب، فتعللتُ بوجودي القديم هنا، وباستحالة امكانيتي بناء بيتٍ ثانٍ، وتحثدتُ معه بما يتناسب مع فكرته، لكنَّ غابة هيدجرالسوداء ظلت تلوح لي من البعيد، بأشجارها وظلمتها وأمطارها، هو الذي رفض في أيلول 1933 كرسي الفلسفة، ومن ثم عمادة إحدى الكليات في جامعة فرايبورغ، مفضلاًّ البقاء في غابته.
أشعر أحايناً بأنني أبالغُ في تعلقي بالمكان، حياةً وكتابةً، وربما أخذُ البعضُ عليَّ تالعلق ذلك نقيصةً وفقراً كتابيين، ولا أخفي أنني بتُّ أعيبُ على نفسي إفراطها بحديث الأرض والشجر والماء، لكنني، والحقَّ أقول: لا أجد حياتي خارجَ العالم الاخضر هذا، ثم أيقنتُ بأنَّ الجبل والغابة والمطر وعين الماء والطائر في السماء الزرقاء ووو.. تدعوني، وتحرضني على الكتابة في السفر، بعد أنْ عزَّ علي معاينتها بمحيطي في الجنوب العراقي، الذي راح يفقد ذلك كله، وربما توقفت عن الكتابة، أو استعصى أمرُها عليَّ للأسباب تلك، فأجدني بحاجة دائمة الى السفر، كمسعىً اضطراري وملاذ أخير.
أقول لأصدقائي دائماً حين يتحدثون عن واقعة في المدينة، كانوا شهودها في خمسينات وستينات القرن الماضي بأنني لا أعرف شيئاً عنها، واختم قولي: بأنني ابنُ قرية. نعم، مع أنها لا تبعد عن المدينة أكثر من 5 كم، حتى أنني كنت أدخلها على دراجتي، لكنني، سرعان ما أغادرها، متعجلاً الغابة التي جئت منها. لم أحفظ من ملامح المدينة إلا القليل، فقد بقيت مشدوداً الى مكاني الاول، وكما لو أنني مريضٌ به، وكما لو أنَّ العالم المديني مهددٌ بخطر كبير بتعبير هيدجر أيضاً، هو الذي لا يسمي العيش في غابة التنوب عزلة، إنما هي الوحدة. ذلك لأنَّ الانسان في المدن الكبيرة يمكنه أنْ يكون منعزلاً، أكثر مما في أي مكان آخر،إلا أنه لا يستطيع أن يكون وحيداً هناك.
إذا أردتُ أنْ استلَّ واحدة من سعاداتي فسأتحدث عن زيارات (أبي مرسل وأبي حنان) الشتائية لي. فلاحان، يسكنان بالقرب منّي، يأتيان معاً، أو يأتي أحدهما، يجمع الحشائش والعلف لبقرته، وقد عزَّ عليه ذلك، في مكان آخر، ولكي أطيل مكثه قربي أوقدُ له ناراً، وآتي بإبريق الشاي، ونظلُّ نتحدث بحديث النخل والغرس والجني ومستوى المد في الانهار، وصيد السمك، ووشوشة الطيور ومباغتات الثعالب في الليالي الماطرة، فأظل أصغي له، وأصمت، متاملاً صناعة الجملة عنده، أوما يستحضره من المفردات، وقد مات بعضها، أتامب المعجم الجنوبي، الغاطس بالملح، والمستل من الطين، أوالنازل من الاعالي، الذي سيختفي، وأستشعر مرارة اختفائه، لذا، أرسم ابتسامة أعنيها، أغريه بالاستمرار، مفكراً في ما ساكتبه بعد ساعة، وفي ما يمكن ادخاره لقصيدة ما، أحزنُ لمغادرته، وفي الليل، أرددُ وحدي، ما كانت تقوله فيروز لجارتها:
أقولُ لطفلتي إذا اللّيل بردُ - وصمتُ الرُبى رُبىً لا تُحدُّ
أقول لجارتي ألا جِئْتِ نسهر- فعندي تينٌ ولوزٌ وسكّر
نغنّي فأنتِ وحيدة - وإنَّ الغناء يخلّي إنتظاركِ أقصر.
أعتقد أنَّ ما كانت تقوله الجبال والاشجار والقرى في الغابة السوداء لهيدجر لا يختلف عما كانت تقوله غابة النخل والفاكهة والاشجار لبدر شاكر السياب، أو لسعدي يوسف، وربما لي أيضاً، فقد ظل سعدي مثلاً يؤثث قصائده بمفردات الغابة تلك، حتى ساعاته الاخيرة، على الرغم من تغرّبه الطويل في الاصقاع، وإذا تجرأتُ وقرّبتُ حديث الشعر منّي، فسأقول بأنني لا أجد حياتي خارج العالم هذا، بل هناك أكثر من وشيجة تشدني اليه، حتى لتبدو غريبةً كلُّ كلمة اخطّها ما لم أجد معادلا لها فيه، هكذا، مثلما كان هيدجر يرى بأنَّ العمل الفلسفي لا يتم بعيدا، كما لو انه فريد من نوعه، فمكانه عنده وسط عمل الفلاحين.
الشعر يكمن في مفردات حياتي التي كانت. عندما يتبع الفلاحُ الثورَ متيقناً من تمكّن المحراث في الارض، أو حين تنوءُ المرأة بثقل الحطب، هابطةً المنحدر الوعر والخطِر باتجاه بيتها، أوعندما يمضي الراعي بخطى حالمة، بطيئة صاعداً الهضبة، وعندما يتفقد الشيخُ باب بيت أبقاره، متحسباً من خنزير وحشيٍّ، و حين يقلقه سقفُ منزله في ليلة ماطرة، قليلة النجوم، الاعمال هذه لا تفترقُ إلا في التفاصيل عن العمل في الفلسفة أو الشعر.