طارق الجبورييتعمد البعض وضمن مخطط ممنهج له بذكاء، كما يبدو ،إلى الإساءة لتاريخ شعبنا وارادته في التحرر،من خلال صورة مشوهة للوقائع ومحاولة تحميل وزر كل ما عانيناه ونعانيه على القوى الوطنية التي دفعت الشعب للثورة على مستغليه وناهبي ثرواته ومسببي مآسيه كلها.
واذا كان من حق اي طرف في ظل فسحة الحرية ،إبداء رأيه بشا ن، اية قضية ، فان الواجب المهني والاخلاقي لايتيح لاي منا ان يرتكب خطأ تعميم الاحكام على اية ظاهرة او تجربة ، بشكل مجزأ ومشوه يبعده عن اوليات التحليل العلمي الذي يفترض فيه ان يلتزم الحياد والموضوعية .ومن الغريب اننا بتنا نطالع بين فترة واخرى ، آراء تسفه نضال وتضحيات شعوب مارست حقها الطبيعي ،مثل غيرها من شعوب المعمورة ،في المطالبة باستقلال قرارها السياسي ورسم خطى تحررها الاقتصادي والاجتماعي الذي ما كان ليتحقق بغير الثورة التي صار اسمها في هذا الزمن غير مرغوب فيه ، متجاهلين ان مفهوم الثورة كان عنواناً على مر التاريخ للصراع بين الاغلبية المقهورة وبين الظالمين من ممسكي زمام السلطة،كما ان هذه الثورات في العالم كانت المحرك الاساس والسبب وراء تحقيق الكثير من الاصلاحات والقوانين في العالم بما فيها انكلترا وفرنسا رغم الفارق بين النظامين. صحيح ان عصر الادلجة والنظريات قد بات في خبر كان ، غير ان هذا لايعني القفز على حقائق تاريخ ما زال الكثير من معاصريها، شهود على احداثها بايجابياتها وسلبياتها . وبعيداً عن كل التنظيرات الرأسمالية او الاشتراكية وما بينهما من خلاف ، لابد وإنصافاً لتاريخ وتضحيات شعبنا ان نتوقف عند تداعيات الاحداث التي آلت الى ما وصلت اليه الامور في الدول التي مارست شعوبها حق الثورة لنتعرف بموضوعية الى الاسباب والعوامل التي ادت الى انتكاسات دفع ثمنها غاليا وما زال الطبقات الفقيرة من الشعوب في العراق ومصر وسوريا وايران وغيرها ، التي يعيبون أغلبهم قيامهم بالثورة على الانظمة الاستبدادية فيها . اليوم ونحن نعيش ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز1958 ، لابد من العودة بالذاكرة الى ما تعرضنا له من ازمات ليبرز امامنا تساؤل ملح عن القوى والتيارات التي تتحمل تبعات ما تعرضنا اليه من انتكاسات متتالية ، فقد توصلنا الاجابة عليه الى فهم تنصف فيه الثورة وحملة رايتها في العراق وغيره . وهذا يلزمنا المرور ولو بشكل سريع على طبيعة النظام السياسي الذي كان سائداً وتركيبته في العراق قبل 14تموز1958، وصولاً إلى اسباب نضوج الثورة وحتمية القيام بها .من المعروف ان العراق صار من حصة بريطانيا عند اقتسام غنائم الدولة العثمانية المنهارة ،في إطار اتفاقية سايكس بيكو المعروفة، اضطرت رضوخاً عند مطالب شعبه وقواه الوطنية من منح استقلال شكلي له و تنصيب فيصل الاول ملكاً عليه بعد ان تم طرده من سوريا وتشكيل نظام حكم ، ليس تجنياً عليه ،القول انه ارتبط بارادته او سواها بمصالح الاستعمار البريطاني . ومن باب الانصاف الاعتراف بان ظروف تلك المرحلة لم تكن مهيأة لنيل الاستقلال والسيادة الناجزتين ، غير ان هذا لايبرأ النظام انذاك من ممارسة اعمال القمع والاضطهاد ضد القوى الوطنية بشتى مسمياتها،كما ان هيمنة الاقطاع باسوأ صوره ادى الى تخلف القطاع الزراعي، ناهيك عن ان الاعتماد شبه الكلي على المشورة البريطانية في ادارة دفة الاقتصاد سبب تخلفه على كل الصعد ، وباختصار فان تدهور الوضع العام انذاك سياسياً واقتصاديا واجتماعياً لم يترك خياراً امام القوى الوطنية من التفكير بتغيير نظام الحكم . وبغض النظر عن الطروحات المدافعة عن مواقف نوري سعيد او غيره، فان ما لايختلف عليه احد ان هنالك ظروفاً وأسباباً،مهدت لقيام مجموعة من الضباط الاحرار للتخطيط للثورة على هذا النظام ، مستفيدين من النقمة الشعبية على رموزه،مع تحفظنا على ما رافق ذلك من احداث قتل للعائلة المالكة او غيرهم وعمليات السلب التي رافقت الثورة والتي لم يجر انتقادها او تحليلها في الوقت المناسب. لقد كان مقدراً للثورة ان تحصل لتؤسس لنظام حكم يستجيب لطموحات الشعب واحلامه المشروعة في الاستقلال واستثمار ثرواته بالشكل الصحيح ، وهو امر طبيعي لاشائبة فيه،غير ان ما برز بعد الثورة من اشكالية غياب الرؤية للتمييز بين السلطة والثورة،أجج الصراع بين القوى السياسية بمختلف مشاربها وضيع فرصاً ثمينة على شعب العراق ، كانت كفيلة بانتشاله من الحالة التي رزح تحتها منذ 1958حتى الان. ونظن ان ابرز ما وسم مرحلة ما بعد الثورة في الدول التي قامت بها في العالم الثالث ومنه المحيط العربي ومنه العراق ومصر وسوريا ،عدم جدية العسكر ممن قاموا بالثورة في الانتقال الى مرحلة الديمقراطية واستبداله باسلوب الانقلابات العسكرية، وسيادة حالة الطوارئ،وكبت الحريات والتصفيات الجسدية للمعارضين ، وسوء استخدام الثروة الطبيعية وهدرها لتحقيق مصالح ضيقة والفساد، وغيرها من المظاهر التي ادت الى تشويه مفهوم الثورة.ولايمكن هنا اغفال الدور السيء لتدخل دول الجوار العرب
لكي لاتظلم ثورة 14 تموز مرتين.. مراجعة وملاحظات سريعة
نشر في: 12 يوليو, 2010: 06:15 م