ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
أوليفر ساكس Oliver Sacks (1933 – 2015): طبيب أعصاب بريطاني، عالم طبيعة، مؤرخ للعلوم، ومؤلف.
وُلِد في بريطانيا وتلقى تعليمه هناك، وعمل في الولايات المتحدة حتى وفاته. أشتهر أوليفر باعتقاده أن الدماغ هو الشيء الأكثر روعة في الكون، وأصبح معروفاً على نطاق واسع بكتاباته حول تاريخ حالة مرضاه واضطراباتهم الخاصة وتجاربهم غير العادية. أستخدمت بعضُ كتبه لتكون مسرحيات لكتاب مسرحيين رئيسيين، وأفلام روائية، وأفلام رسوم متحركة قصيرة، وأوبرا، ورقص، وفنون جميلة، وأعمال موسيقية من النوع الكلاسيكي.
أعلن ساكس في مقالة نشرها في صحيفة النيويورك تايمز بتأريخ 19 شباط (فبراير) 2015 أنه مصاب بسرطان قاتل في مرحلته النهائية، وأنّ الورم إنتشر في كامل كبده. توفي ساكس في 30 آب (أغسطس) 2015 عن عمر يقاربُ 82 عاماً.
نشر ساكس العديد من الكتب التي لاقت رواجاً عالمياً بسبب الخبرات الثرية التي إكتنزها في حياته. تُرجِم العديد من هذه الكتب إلى العربية، ويمكن للقارئ الشغوف الاطلاع على هذه الكتب على الشبكة العالمية. أدناه قائمة بهذه الكتب (سأكتفي بعناوينها العربية مع تواريخ نشرها باللغة الانكليزية):
- الصداع النصفي (1970)
- صحوات (1973)
- أريد ساقاً أقف عليها (1984) (مترجم إلى العربية)
- الرجل الذي حسب زوجته قبعة (1985) (مترجم إلى العربية)
- رؤية الأصوات: رحلة إلى عالم الصم (1989)
- أنثروبولوجي على سطح المريخ (1995)
- عمى الألوان (1997)
- العم تنغستن: ذكريات الصبا الكيميائية (2001)
- نزعة إلى الموسيقى: حكايات الموسيقى والدماغ (2007) (مترجم إلى العربية)
- عين العقل (2010) (مترجم إلى العربية ومتاح مجاناً على موقع هنداوي للنشر)
- هلوسات (2012)
- على الطريق (2015) (سيرة ذاتية)
من الأفلام المميزة التي لايمكن أن ينساها المرء والمعدّة عن أعمال ساكس هو فلم صحوات Awakenings الذي أطلِق للجمهور عام 1990 وأبدع فيه الممثلان الرائعان الراحل روبن ويليامز و روبرت دي نيرو.
الآتي ترجمة للمقالة - المنوّه عنها أعلاه – التي كتبها ساكس ونشرها في صحيفة النيويورك تايمز بتأريخ 19 شباط (فبراير) 2015. العنوان الأصلي للمقالة My Own Life.
المترجمة
قبل شهرٍ خلا ملأني شعورٌ بأنني في صحة طيبة ؛ بل وأقولُ في صحة تامة. لم أزل وأنا في الحادية والثمانين قادراً على السباحة لمسافة ميل كلّ يوم ؛ لكنّ حظي الطيب في الحياة راح يتضاءل بعد أن علمتُ قبل بضعة أسابيع أنني أعاني من أورام منتشرة متعددة في كبدي. قبل تسع سنوات من ذلك التأريخ وجد الأطباء أنني أعاني من ورمٍ نادر في العين (يدعى بالتحديد الورم العَيْني الميلانيني Ocular Melanoma)، وبعدما عولجتُ بالاشعاع والليزر لإزالة هذا الورم ألفيتُ نفسي مصاباً بالعمى الكامل في العين التي خضعت للعلاج. من المعروف طبياً أنّ الأورام الميلانينية العينية تنتشرُ بنسبة تقريبية مقدارها - ربما - خمسون بالمائة من الحالات الكلية للإصابات، وفوق هذا فإنّ صحتي الجيدة وظروف إصابتي بالمرض كانت تقلّل من نسبة إنتشار الورم لديّ إلى أقلّ من خمسين بالمائة بنسبة كبيرة ؛ لكنني مع هذا كنتُ واحداً من غير المحظوظين الذين إنتشر السرطان في أجسادهم.
أشعرُ اليوم بالامتنان لأنني مُنِحتُ تسع سنوات من الصحة الطيبة المكتنفة بالابداع منذ تشخيص إصابتي الأولى بالسرطان ؛ لكنني الآن في مواجهة مباشرة مع الموت: تحتلُّ خلايا السرطان ثلث كبدي ؛ ومع أنّ هذا النوع من الانتشار السرطاني يمكن إبطاء تفاقمه لكنني أعرفُ أنه نوعٌ عنيد من السرطان لايمكن إيقافه أو كبحُ مفاعيله.
سيكون شأني – وشأني أنا وحدي - الآن إختيارُ الكيفية التي أعيشُ بها الشهور القليلة المتبقية لي. أرى أنني يجبُ أن أعيش تلك الشهور بأكثر الطرق التي أستطيعها ثراءً وعمقاً وإبداعاً، وفي هذا الشأن ألتمسُ الشجاعة من كلمات واحدٍ بين أفضل الفلاسفة الذين أحبهم، ديفيد هيوم David Hume، الذي كتب سيرة ذاتية موجزة لحياته الكاملة، ولم تستغرقه الكتابة سوى يوم واحد من أيام شهر نيسان (أبريل) عام 1776. إختار هيوم لسيرته تلك عنوان (حياتي My Own Life)، وكان دافعه لكتابتها هو علمه بدنوّ أجله المحتوم بسبب مرض لايرتجى شفاؤه وهو لم يزل بعدُ في الخامسة والستين. كتب هيوم في سيرته تلك:
« أفترضُ الآن، وبسبب السرعة المفرطة في تفاقم حالتي المرضية، أنني عانيتُ القليل وحسب من الألم الناجم عن علتي المرضية ؛ لكنّ ماهو الأكثر مدعاة للغرابة في حالتي أنني – وبرغم التراجع المخيف في قدرات جسدي – لم أعانِ خموداً، ولو حتى للحظة واحدة، في طاقتي الروحية وشغفي بالحياة..... لم أزل حتى اليوم أمتلكُ الحماسة ذاتها التي كانت لديّ من قبلُ في المواظبة على الدراسة والشعور بالبهجة في صحبة الناس. «
أحسبُ نفسي محظوظاً بما يكفي إذ عشتُ لما بعد الثمانين، كما أحسبُ أنّ السنوات الخمس عشرة التي مُنِحَتْ لي أكثر من السنوات التي عاشها هيوم هي سنواتٌ غنية بالعمل والحب تماماً مثل السنوات التي عشتها قبل الخامسة والستين. نشرتُ خلال هذه السنوات الخمس عشرة خمسة كتبٍ، وأكملتُ كتابة سيرتي الذاتية (هي بالتأكيد أطولُ بكثير من سيرة هيوم التي لاتتعدى بضع صفحات !)، ولازال لديّ بعضُ الكتب التي تنتظرُ لمساتي الختامية عليها.
تابع هيوم في بعض سيرته الذاتية المنوّه عنها أعلاه:
« أنا.... رجلٌ بمزاج معتدل، لي اليد الطولى في التحكّم بمزاجي، وأراني شخصاً إجتماعياً منفتحاً يميلُ للفكاهة التي تبعثُ على البهجة والانشراح. لي قدرة على الانغمار في صحبة حميمة ؛ لكنّني أُبْدي حساسية – بعض الشيء – من روح العداوة، وكلّ جوانب شغفي تقعُ في نطاقات أجيدُ كيفية التحكّم بها وضبط لجامها لكي لاتحيد عن المسار المسموح لها. «
أراني في هذه التفاصيل أحيدُ عن شخصية هيوم حيوداً كبيراً ؛ إذ في الوقت الذي أحسبُ نفسي قد إجتنيتُ الكثير من البهجة في الانغماس بعلاقات الحب والصداقات، ولاأرى أعداء كارهين لي ؛ لكن ليس بمستطاعي القولُ (وكذلك ليس بمستطاع أي شخص يعرفني أن يقول) أنني شخص ذو مزاج معتدل. العكس هو الصحيح. أنا رجلٌ ذو مزاج يوصف بالحدّة، وحماستي متفجّرة، وكلّ أشكال شغفي بالحياة تكتنفها سلوكيات متطرّفة.
لكن مع كلّ هذه الاختلافات ثمّة سطرٌ واحد في مقالة هيوم القصيرة هزّ كياني بسبب مصداقيته العظيمة:
« إنه لمن العسير عليّ أن أكون أكثر انفصالاً عن الحياة (بمعنى ان أكون أكثر قدرة على بلوغ أحكام موضوعية، المترجمة) ممّا أنا عليه في الوقت الحاضر. «
كنتُ قادراً خلال الايام القليلة الماضية على رؤية حياتي من علوّ هائل ؛ فتبدّت لي كواحد من المناظر الطبيعية، وملأني إحساسٌ مافتئ يزداد عمقاً بوجود صلة لي مع كلّ أجزاء حياتي. لايعني هذا أنني قد إكتفيتُ من الحياة ؛ بل على العكس أشعرُ شعوراً قوياً بضراوة الحياة التي أكتنزها داخلي، وأبتغي – بل آملُ بقوة – في الأيام المتبقية لي أن أعزّز صداقاتي، وأن أقول (وداعاً) لهؤلاء الذين أحبّهم، وأن أكتب أكثر، وأن أسافر أكثر متى ماكانت قدرةُ جسدي تسمح بذلك، وأن أحقق مستويات جديدة من الفهم والبصيرة.
أعرفُ أنّ الافاعيل أعلاه تتطلبُ الجرأة والوضوح والكلام المباشر - من غير تزويقات لفظية - في محاولة إصلاح بعض علاقاتي المعتلّة مع العالم ؛ لكن سيكون هناك وقتٌ أيضاً لبعض المرح (وحتى لبعض الحماقات أيضاً !!).
أصبحتُ الآن أشعرُ بوضوح فجائي في أولوياتي ومنظوري للحياة. ليس ثمة بعد اليوم من وقتٍ يُسفحُ لأشياء غير جوهرية. يتوجّبُ عليّ أن أوفّر طاقتي لنفسي وعملي وأصدقائي. لن أهتمّ بعد اليوم بمتابعة الساعة الاخبارية مساء كلّ يوم. لن أجعل السياسة بعد اليوم على قائمة مشغولياتي، كما لن أعير اهتماماً بالشواهد الاضافية الخاصة بفرط الاحترار العالمي.
لاأرى في سلوكي هذا لامبالاة بقدر ماهو رؤية موضوعية (ترى العالم بنظرة محلّقة بدلاً من رؤية العالم والمرء معجون به إلى حد يعجز معه على السلوك الموضوعي المطلوب، المترجمة). لازلت أهتمُّ بأعظم قدر لمعضلات الشرق الأوسط، ومعضلة فرط الاحترار العالمي، والتفاوت العالمي في الدخل ؛ لكنّ ماأريد قوله هو أنّ هذه المعضلات لم تعُد شأني بعد اليوم لأنها معضلاتُ ستؤثر في المستقبل وليس في يومنا هذا. المستقبلُ وحده سيتكفّلُ بها. أنتشي كثيراً عندما ألتقي شباباً موهوبين (ومنهم أولئك الشباب الذين أخذوا خزعات من نسيجي المصاب ومن ثمّ شخّصوا إصابتي بالسرطان القاتل). أشعرُ بصحبة هؤلاء الشباب الرائعين أنّ المستقبل في أيادٍ مؤتمنة.
أدركتُ بكيفية متعاظمة خلال العشر سنوات الماضية حقيقة الميتات المتتالية التي أصابت رفقائي. جيلي في طريقه إلى النهاية المحتومة، ومع كلّ ميتة لأحد أقراني ينتابني شعورٌ بأنّ شيئاً يتمزّق في داخلي. لن يكون ثمة من يشبهنا عندما نغادر هذه الحياة ؛ إذ لم يكن هناك من قبلُ، ولن يكون هناك في المستقبل، شخصٌ يشبه آخر سواه. عندما يموت البشر فليس من وسيلة لإستبدالهم. إنهم يتركون فجوات لايمكن ملؤها من قبل آخرين ؛ لأنّ القَدَر fate الذي تشكّله ترتيبات جينية وعصبية محدّدة هو الذي يفرضُ بأن يكون كلّ فرد تركيباً مميزاً وفريداً من نوعه لايشبه أي تركيب لفرد سواه، وهذا القدر ذاته هو الذي يفرضُ على كل شخص أن يجد مساره المميز في الحياة، وأن يعيش حياته الخاصة، وأن يموت ميتته الخاصة كذلك.
لاأقوى على التظاهر بأنني لستُ خائفاً ؛ لكنّ شعوري الطاغي هو الامتنان Gratitude. أحببتُ كثيرين وأحبّني كثيرون. مُنِحتُ الكثير ومَنَحْتُ الآخرين أشياء في المقابل. قرأتُ وسافرتُ وفكّرتُ وكتبتُ. كانت لي علاقةٌ مع العالَم: علاقة خاصة تجمعُ الكُتّاب بالقرّاء.
كنتُ قبل كلّ شيء كائناً واعياً، حيواناً مفكّراً عاش على سطح هذا الكوكب الجميل. كانت هذه التجربة في ذاتها إمتيازاً عظيماً ومغامرة مميّزة.