طالب عبد العزيز
في الزمن العربي الذي يتعذر وصفه بالسوء فقط، وفي ظل الظروف التي أبعدت إنسان عن دوره في صناعة الحياة، والبحث عن سبل معرفية وعلمية، لرسم المستقبل، لم يكن هو الفاعل السياسي السيء الاول والاخير، إنما لم يجتهد، هو الذي بإيجاد الحيف الدور الذي كان يتوجب عليه لعبه، في فترات تخبط وضعف الفاعل السياسي خاصه، وما نشهده اليوم في أكثر من بلد عربي يشير بوضوح الى ركاكة انساننا العربي، وضعفه معرفياً،
هو الذي لم يبحث عن مصادر قوته خارج إرادة رجل السياسة والدين، وتحصين نفسه، إنما انقاد مثل اعمى لما انتجته ماكنة العقل السياسي المتخلفة، هذا إن لم يكن العصا التي ساطت جلده قبل غيره.
معلوم أنه وبعد أن استولى السوقة والمتسولون في فيينا على المكتبات التي غادرها أصحابها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أنهم قاموا بتصفحها وقراءتها قبل بيعها، لمعرفة ما تنطوي الأغلفة المغلقة عليه من الافكار والعلوم، ليتمكنوا من الترويج لها، ومن ثم تشجيع المشترين على اقتنائها، لكنهم، وبعد أن تم لهم ذلك لم يتوقفوا عند الثروة التي جمعوها ببيع الكتب، والتي كانوا يجهلون أثمانها، إنما تجاوزوها الى الثروة المعرفية التي اكتسبوها، وهنا حدث الانقلاب في وعيهم، فقد باتوا يمتلكون القدرة على الكلام، باستخدام لغة الثقافة، ومن ثم تمكنوا من التعبير عن آرائهم، باللغة والمصطلحات التي وجدوها في الكتب تلك.
في المجتمعات الضعيفة غالباً ما تنعكسُ أفعال السياسة سلباً على فعل الثقافة، وقلما نجد مثقفاً سلم بنفسه من التاثير ذلك، والمؤسسات الثقافية بعامة سريعة القياد الى التناغم مع الافعال تلك. يعتقد بعض مسؤوليها- بمن فيهم من أوتي نصيباً من المعرفة- بانَّ واجبها يكمن في انها تعمل على وفق ما يتردد وينعكس في الشارع، وهي تؤدي رسالة الاستجابة المناطبة بها، وهنا يكمن الخطر الابلغ، إذا ما علمنا بأن واجب الثقافة هو زعامة المشهد العام، والاخذ به الى ما يحقق للانسان كماله، وان لا تكون سيقة للسياسي أو رجل الدين أو غيرهما.
تعلمنا دروس الصحافة عدم الثقة بالسياسي، وهو مخاتل ومراوغ أبداً، فالوزير يصرُّ على منح نفسه الصورة المشرقة دائماً، كذلك يفعل مديرو المؤسسات التابعة له، ولن يقبلوا إلا بإظهار الصورة الجميلة عنهم، فيما يحجب هؤلاء مجتمعين عن الصحفي كل ما من شأنه خلاف ذلك، حيث يمنع الوزير أو المدير العام معاونيه عن التصريح، أو الاتصال بوسائل الاعلام، ويجعل الامر حكراً عليه.
قد تصبح قضية مثل هذه مادة مغرية في التناول، لما يعتقد البعض في اهميتها، وهناك العشرات من القصص الأكثر إثارة، مثل خلافات الطوائف السياسية، وقصص الافتراق الديني والمذهبي، ومثلها نزاعات العشائر، وما يطفو على السطح من وقائع هنا وهناك، داخل المجتمعات، غير متنبهين مثلاً إلى أهمية وخطورة هدم مبنى أثري، أو ضياع فرصة للتطور، أو تراجع في مستوى التعليم، أو انحراف ما في وجهة نظر عامة.
الاسوأ من ذلك كله هو نشوء الاعتقاد عند العامة بأنَّ الخلافات السياسية والدينية والطائفية تلك هي جوهر الحياة، وأنَّ الدفاع عن جملة الاعتقادات تلك لهو السبيل الوحيد للبقاء، والذي يتوجب أن يمنح الاولوية في التفكير والفهم، فتطرد الثقافة والفنون ومجمل الحراك الانساني المتطهر من رجس الخلافات تلك الى الخارج، دونما انتباهة من أحد إلى أن الحياة الحقيقة، والصيرورة الخالصة إنما تكمن في اهمية سيادة عناصر الجمال على الخلافات تلك، وفي تجارب الشعوب ما يعزز ذلك.
سوقت وسائل الاعلام الغربية قضية مثل الحرب في اوكرينيا على أنها الحدث الاكبر والاهم، وأن روسيا ستبتلع البلاد الاوراسية، واوربا الشرقية بعد ذلك، فيما يشهد العالم انقلاباً مرعباً في الفكر والمجتمع والاقتصاد والتجارة وتفاصيل الحياة الاخرى، التي منها نشوء مراكز قوى شرقية (روسيا والصين والهند وإيران) التي ستلعب الدور الجديد، غير الذي رسمته امريكا واوربا خلال مئة السنة الماضية، وبناء على المنقلب القادم ستشهد البشرية ما لا يتكهن احدٌ بنتائجه، بعد أن أستبعدت فلسفة الحياة بمعناها الانساني، وأقصيَ العقلُ الحرُّ، الذي لم يكن حراً طوال الفترة تلك، حتى صُيَّر الانسان فيه وسيلة التدمير الاولى للكون.
قد لا يدرك إنساننا العربي على المدى القريب خطورة قضية مثل إبعاد الثقافة وعموم الفعل الجمالي الانساني على حياته، فيذهب بكل طاقته الى معاينة وتتبع أفعال السياسة والدين والطائفة لكنه سيجني نتائج ذلك بكل قسوة. وقد يقول أحدهم: وهل كانت السياسة والدين عائقاً؟ فنقول: نعم. لأنَّ هؤلاء ظلوا يمسكون بقبضة السلطة، وهيمنوا على كل شيء (المال والجاه، والسلاح، والاعلام) ووجهوها على انسان منزوع الوعي،غير محصن بالثقافة.