ثائر صالح
2-3
تحدثت الأسبوع الماضي عن الحملة الدعائية الكبيرة التي شنها النازيون لاجتثاث ما أسموه بالموسيقى المنحطة، وهي حسب رؤيتهم الموسيقى التي يؤلفها أو يقدمها غير الآريين،
في المقام الأول اليهود، والموسيقى الأجنبية بالخصوص موسيقى الجاز والسوينغ، وكذلك موسيقى الاثنتا عشرة نغمة والموسيقى اللا نغمية (Atonal). لذلك منعوا الموسيقيين اليهود وغيرهم ممن اعتبروا غير آريين من عضوية اتحاد الموسيقيين الألمان، ومنعوا عنهم تصاريح تدريس الموسيقى، ووزعوا قوائم تتضمن العناوين الموسيقية غير المرغوب فيها، وحرضوا في خطاباتهم ومواد الدعاية والمعارض التي أقاموها ضدها. ووصل الأمر منع اليهود من ارتياد المسارح والسينمات وقاعات الموسيقى وغيرها من المؤسسات الثقافية. نجد بين الممنوعين أسماء مهمة، أهمها مندلسون، وطال المنع موسيقيين معاصرين كبار مثل إيغور سترافنسكي وآرنولد شونبرغ وأوتّو كلمبرر وبرونو فالتر وكورت فايل وهانس آيزلر وأريش كورنغولد وبوهوسلاف مارتينو وغيرهم. مطالعة الأسماء تنبئنا بعناوين المنع: اليهودية - اليسار والشيوعية - التيارات الموسيقية الطليعية.
وضع الحزب القومي الاشتراكي الألماني (النازي) سنة 1940 قائمة تضم الفنانين الممنوعين، وبدأت بإرسال من يعتقل منهم إلى معسكر في مدينة تَرَزين التشيكية في شمال بوهيميا. استعمل النازيون هذا المعتقل كواجهة تعرض على الوفود الدولية مثل الصليب الأحمر، لكنه في الحقيقة كان مركزاً لتوزيع المعتقلين على معسكرات الإبادة بعد “عرضهم” على الوفود الدولية، حتى أغلق تماماً في 1944 بعدما نقل الآلاف من معتقليه من موسيقيين وفنانين إلى آوشفيتس.
أما الموسيقى التي دعمها الرايخ الثالث ورفعها بمثابة موسيقى آرية نقية، فهي موسيقى ريشارد فاغنر (1818 - 1883) وكانت مفضلة عند هتلر. لهذا السبب لم يقدم فاغنر كثيراً في الدول الاشتراكية السابقة، ومنعت إسرائيل تقديم موسيقاه كردّ فعل، إلى أن كسر المايسترو دانييل بارنبويم هذا المنع المعاكس بتقديمه افتتاحية تريستان وإيزولده في إسرائيل سنة 2001 مما أثار عاصفة شديدة ضده هناك. وهذا أمر مفهوم، إذ استعملت الدعاية النازية موسيقى فاغنر بكثرة في الأفلام الدعائية عن أخبار انتصارات هتلر، بالخصوص موسيقى الفصل الثالث من دراما الفالكيرات. واستعمال فرانسيس كوبولا نفس المقطع لمصاحبة المشهد الرهيب للسمتيات الأمريكية وهي تقصف في حرب فيتنام في فيلمه الشهير “القيامة الآن” (1978) ليس من دون سبب.
ويعود تعلق هتلر بفاغنر وموسيقاه إلى عدد من الأسباب، أولها اشتراكه مع فاغنر في عدائه لليهود، واستعمال فاغنر مواضيع الأساطير الجرمانية في أعماله، وتركيزه على موضوع البطولة وبالخصوص البطل الخارق المنقذ للأمة، والطابع الدرامي والمسرحي لموسيقاه، كل هذا جذب هتلر إليها، فلا عجب أن تحاكي أفلام الدعاية النازية عن مؤتمرات الحزب القومي الاشتراكي التأثيرات المسرحية الفاغنرية. وفوق ذلك يمكن إضافة عامل آخر، هو اعتقاد هتلر عن نفسه بأنه فنان قبل أن يكون قائداً سياسياً، رغم فشله مرتين في دخول أكاديمية الفنون في فيينا لدراسة الرسم، ومحاولته البائسة في “إكمال” أوبرا فاغنر “فيلاند الحداد” سنة 1908 بعد تلقيه دروس بيانو لبضعة أشهر. ويعكس هذان الأمران خللاً سيكولوجياً تجلى في اعتقاده بامتلاكه قدرات خارقة كأي بطل من أبطال فاغنر.