طالب عبد العزيز
ترسلُ طرداً في الليل الذي لا يصله أحد. المعابرُ تحولُ، والدم العاثرُ باقدام المتحاربين من حولك يحول ايضاً، وسلسلة الشبه في صدرك، بخريطتها الرافدينية، تحتك بحيازيم رقبتك، فينزُّ نخلٌ، وتسمق شجرة زيتون.
في الساحة التي لم يكمل شوط البطولة في تماثيلها بعد، كان الحصان يبحث في جثة القتيل عن ساحة أخرى يسقط فيها. منذ شهور والريح تعصف بشجرة السلالات، فهي في قبضة السماء مرةً أخرى، ولا أحد يأخذ مذراة القمح لتفك النار عن متشابك السعف والجذوع ! أما كانت النخلة واحدةً؟
تكتب تقريظاً للبطولة، وهي تصادفك في إذرع مبتورة، وفي صدور احترقت تواً، أو ما زالت تحترق، وتبحث عنها في مركبة ظلت تتقلبُ في الرملة اليابسة، التي بين البصرة وبغداد، تبكي الذاهبين الى الرصاص قبل أوانهم، تحمل عن هذا بندقيته، وتنشد الاغنية التي أحبَّ ذاتها، فتطير قبعتك في الريح، وتعلوك أسماء الاولياء في الشمس، لكانك ما احتفلت بالنصر الذي كان لك بالأمس، لكانك ما تجرعت كأس الهزيمة قبله. اتكتب ألغازاً؟ والبلاد التي رمت مغادرتها قبل أربعين سنةً، ما زلت تبحث في شوارعها عن لحظتك الضائعة، فهي تجرك الى قبورها، تفاديت بعضها، وآمنت ببعضها نهاية وخلاصاً. لكن، هم قومك الذين يتصادى الرصاص من بنادقهم، وهم أبناؤك المتحاورون ببنادقهم خلف الاسيجة، فاحترس من كلمة تقولها في الوطن، مثل إحتراسك من رصاصهم الساعة هذه.
الغلبة لمن؟ والوطن مغلوب مغلوب. دلني على بيرق لم يصطبغ بالاحمر بعد، أدلك على الطريق التي تصل بك البحر وما يليه، حيث الزرقة طرية هناك، خذني الى دريئة من الورد أحصي عدد المضرجين بالقبل تحتها، أو البسني مدرعة بيضاءً، لأنجو بقلبي من بغضاء كل شيء، وتعال أسمعك النشيد الذي يجمعنا معاً، تعال نقرض بأسنانا سرفات المتحاربين، علّهم يتنبهون لما نفعله، وليسقط علينا من الرصاص ما فضل في بنادقهم ما يسقط، كل رصاصة أمل في هزيمة أكيدة، وكل رصاصة أمل في نصر مزعوم، فعلام تطيل بالخراطيش، يا من تتعثر بها بين القتلى، علام تسحبها الى الامام، يا أنت، أيها المتدثرُ بصورة أمّك، يا من أحمل عنك حقائب أبنائك في طريق عودتهم من المدرسة، تعال الى ركن في الفسحة التي ظلت بيننا، أحدثك حديث الذاهبين فرادى الى الحلم.
لا تبحث في راحة يد الشيخ عن شرفتك المطلة على دجلة، ولا تجعل له نصيباً في حديثك مع حبيبتك، وجدّف، صارخاً على كلمة الصبر، فهي ميتة في معجمه، سيأخذ عنك فمك، إن دخلت مسجده جائعاً، وأوصيك بألا تفتح قميصك للرصاص، أفتحه لريح الصباح، حسب، وأنت آخذ طريقك الى حقول النور، هي كثيرة. في عين حبيبتك ما يغنيك عن معنى واحد للوطن، وفي صدرها ما يتفرقد من الافلاك والقبلات... خذها مني وعني: كل الذين تتلمذت على محبتهم أرادوك بغضاءً لقلوبهم. فيا أخي في الحلك والظلموت، ويا عضدي التي افتقدُ الآن، لا تكن أول المقتولين ولا آخرهم، لأنَّ الطريق خلاك موحشة، فأنا وإنْ اهتديتُ ما اهتديتُ إلا بك، وأنْ تحدثتُ ما تحدثتُ إلا بك، وإن ارتقيتُ ما ارتقيتُ إلا بك، فلا تجعلني في خرج نسيانك بعد اليوم.