د. جواد بشارة
أتيحت لي فرصة ثمينة في باريس في شهر تموز 1989 لمشاهدة مجموعة من الأفلام السوفيتية المنتخبة كلها من جمهورية جيورجيا السوفيتية عرضت ضمن تظاهرة في المركز الثقافي “ جورج بومبيدو”وفي صالات عرض سينمائية أخرى من فئة الفن والتجربة،
إلى جانب تكريم خاص للمخرج الأرمني الشهير سيرغي بارادجانوف حيث عرضت جميع أفلامه بما فيها الأخير “ أشيك كريب” الذي أفتتحت به فعاليات تلك التظاهرة وكان لي معه هذا اللقاء الخاص.
أعتبرت تلك التظاهرة حدث الموسم السينمائي آنذاك لأنها أتاحت لنا إمكانية اكتشاف السينما الجيورجية ذات التقليد العريق والماضي المشرق الذي بدأ سنة 1912 ولم ينقطع عن رفدنا بالتيارات والمدارس والتجارب السينمائية الرائدة الأغنى.
في هذا البلد ذي التراث والتاريخ القديم الذي يضرب بجذوره إلى آلاف السنين، خرج مبدعون كثر في جميع المجالات. لقد أعطى هذا البلد العظيم جيورجيا سينمائيين كبار خلدوا بأسمائهم وأعمالهم تاريخ هذا الفن في بلدهم كعائلة شنغلايا وآل تشيلورلي، وفي فترتنا المعاصرة، خرج من هذا البلد العريق سينمائيون لايقلون شهرة وموهبة وأهمية مثل تنغيز أبو لادزه ، ألكسندر ريكياسفيلي. أوتار إيوسلياني ناندجور دجيادز وغيرهم كثيرون ومن المفارقات الملفتة للنظر – ونحن نعلم إن القوقازيين لايكرهون المفاجئات الجميلة-إن أحد السينمائيين الأرمنيين من تبليسي هو سيرغي بارادجانوف كان هو ضيف شرف افتتاح تلك التظاهرة السينمائية الكبيرة في باريس.والتي اجتمع فيها حشد كبير من الأرمن والجيورجيين والأوكرانيين المقيمين في الغرب أو القادمين من الاتحاد السوفياتي احتفاءاً بسينما بلاد من أشهر وأجمل بلدان الاتحاد السوفياتي ويبلغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة في ذلك الوقت ومن بين الحضور المغني الفرنسي من اصل أرمني الراحل شارل أزنافور
بارادجانوف يبدو كأنه شخصية أسطورية اخترقت العصور واستقرت في النصف الثاني من القرن العشرين. إنه فنان مرهف وموهوب ومستقل جداً وجريء، يصنع فناً خارقاً وخارجاً عن المألوف. قليل من الغربيين التقوا بهذا الفنان السينمائي العجيب والفريد من نوعه، صاحب تحف سينمائية مثل “ جياد النار و “ ظلال الأجداد المنسيين” و “ سايات نوفا” و “ لون الرمانة” و” أشيك كريب”. وهو لم يغادر بلده إلا في هذه المناسبة بعد تلقيه دعوة من باريس وللمرة الأولى بعد أن كان ممنوعاً من السفر وتعرض للسجن بتهمة الاتجار غير المشروع بالتحف الفنية وتهريب الأيقونات والاتجار بالعملة الصعبة في السوق السوداء واتهامه بالشذوذ الجنسي، وكلها تهم كيدية وغير سياسية تعكس لنا مدى هامشية وغرابة وتفرد هذه الشخصية.
أطلق سراح سيرغي بارادجانوف في 30 ديسمبر عام 1977 بتدخل وتوسط من جانب الشاعر الفرنسي الكبير لوي آراغون وليلي بريك وغيرهم من مثقفي وفناني الغرب. وقد أعتبر في سجل مدني في الاتحاد السوفياتي كــ “ سينمائي سابق” وعاطل عن العمل لسنوات عديدة، حتى بدأت الإصلاحات والتغييرات العميقة في الاتحاد السوفياتي في إطار البريسترويكا وإعادة البناء التي قادها ميخائيل غورباتشوف وغيرت في العمق حياة المثقفين والفنانين والمبدعين ومن بينهم سيركيس بارادجانيان المعروف بسيرغي بارادجانوف الفنان الأرمني المتمرد المولود في تبليسي في جيورجيا عام 1924 من أبوين أرمنيين.
منذ أن وصل بارادجانوف إلى باريس لم يتوقف عن السير في شوارعها وساحاتها على الأقدام وقد زار جميع متاحفها ومعالمها التاريخية ومآثرها ونصبها الفنية والسياحية. وبالطبع زار سوق الخردة والأشياء المستعملة الذي تباع فيه الأشياء القديمة والغريبة. ولقد توفرت لي فرصة الاستفراد به واللقاء معه.
نص اللقاء:
س: سيرغي بارادجانوف، كيف وجدت باريس؟
بارادجانوف: أكثر من رائعة. وجدتها أجمل مما تصورتها مخيلتي وأروع مما كنت أسمع واقرأ عنها.
س: هل كنت تتوقع أن تزورها في يوم من الأيام وهل كنت على معرفة بما تلاقيه أفلامك عندما كانت تعرض فيها ومكانتك الحقيقية لدى السينمائيين الفرنسيين.
بارادجانوف: باريس حلم كل فنان لأنها بحق عاصمة الفنون وهي على الأخص عاصمة الفن السينمائي وقد كان حلمي دائماً أن أزور فرنسا وأتجول على قدمي في شوارع عاصمتها الجميلة باريس وأتعرف على أحيائها القديمة والعريقة كمونتمارتر وأراقب الصبية وهم يلعبون ويركضون في ساحات هذا الحي الفني الشهير. كنت أتمنى زيارة قبر نابليون وإديث بياف ودراسة معمار الأبنية والأضرحة والمعالم القديمة الخ
س: إذا كنت تحب فرنسا بهذا القدر فلماذا لاتتحدث الفرنسية أو تتعلمها؟
بارادجانوف: أتذكر إن المعلمين في طفولتي كانوا يضربونني بالعصا على أصابعي حتى أحفظ الفرنسية وأتحدث بها لكنني كنت ولداً شقياً ومتمرداً وكم آسف الآن على ذلك. فالوقت متأخر ولم أعد أتذكر سوى بعض أغاني الأطفال. لقد سمعت كثيراً بالصدى الذي لاقته أعمالي في عاصمة الفنون وكان ذلك ومايزال يسعدني وعندما أسمع باهتمام المبدعين الفرنسيين بمختلف مشاربهم وميولهم وانتماءاتهم بي فإنني أعتبر ذلك شرفاً لي وللفن السوفياتي. إن زيارتي لفرنسا تمثل بالنسبة لي مخزوناً ثقافياً ومورداً فكرياً كبيراً أكبر من الدراسة في أكسفورد وأفضل من أطروحة دكتوراه. وفي أصعب اللحظات في حياتي كنت أتأمل آثار رينوار وماتيس وسيزان العظيمة الموجودة في متحف بوشكين.
س: هل تأخذ بالاعتبار رد الفعل الفرنسي على أعمالك عندما تعرض أفلامك ولوحاتك؟
بارادجانوف: بالطبع كل فنان مهما كان مستواه يتساءل كيف سيستقبل الجمهور والنقاد الفرنسيون عمله لأن باريس بالذات تعتبر أفضل مختبر لامتحان واختبار الآثار السينمائية والتشكيلية فنياً سواء الأمريكية أو السوفياتية أو الأوروبية الأخرى واعتقد إنك تتفق معي في هذا الرأي أو هذه النظرة.
س: أتفق معك بالتأكيد فهذه بديهية وسؤالي هو هل كان للسينما الفرنسية أو السينمات الأخرى تأثير مباشر أو غير مباشر عليك؟
بارادجانوف: كنت أول سينمائي سوفياتي في روسيا يلفظ كلمة « الجيل» للحديث عن العمل وعن ديناميكية السينما وعن الواقعية في الفن السينمائي. لقد كانت هذه المفاهيم مثار اختلاف وذات تفسيرات مختلفة واجتهادات متنوعة ومتباينة في الماضي وحسب الفترات التي مرت ببلادنا لذا اعتبروني فنان مستقبلي. في الأصل كان هناك عاملان دفعاني للعمل في مجال التقطيع والمونتاج أولاً أفلام جريفيث وعموماً السينما الأمريكية في سنواتها الأولى التي تختلف كلياً عن السينما الروسية في عهد القياصرة. هذا إلى جانب كون السينما الأمريكية متميزة مع بقية السينمات الأوروبية كالسينما الإيطالية والسويدية والفرنسية، مع ماكس ليندر كان يدهشني دائماً رد فعل المتفرجين أمام الأفلام الأمريكية والذي يبين مدى هيمنة وسيطرة هذه الأفلام على ذهنية وأذواق المتفرجين وإسحارها أو إفتانها للمشاهدين وكشف درجة تقمصهم وتماهيهم واندماجهم مع الحدث السينمائي الذي يعرض عليهم ويدور أمام ناظرهم على الشاشة البيضاء وهذه السينمات كانت تستند إلى المونتاج الذي طوره آيزنشتين نظرياً وعملياً وعلى الأخص استعمالات اللقطة الكبيرة أو المقربة. كان هذا هو العامل الأول، أما العامل الثاني فكان الأدب الروسي وعلى رأسه رجلان هما تولستوي وبوشكين. وفي كتابي» أسس الإخراج السينمائي» استشهدت بتولستوي الذي تحدث عن المونتاج وكان يسميه الربط بين الأشياء وقال أشياء مدهشة أخرى دون أن يعرف شيئاً عن السينما لأنها لم تكن قد وجدت أثناء كتابة تولستوي لنصه ولكن حدث إن كل آثار تولستوي « مونتاجية» جداً. ونفس الشيء ينطبق على بوشكين الذي هو الرجل الثاني في الأدب السوفياتي ممن أثر بي. خذ أية قصيدة لبوشكين وضع أرقام على الأبيات وستحصل على ديكوباج سينمائي ممتاز وجاهز للتصوير كما هو.
س: هل المونتاج مهم لهذه الدرجة في لغتك الإخراجية؟ وماهو مفهومك للمونتاج وتعريفك الخاص به؟
بارادجانوف: المونتاج هو أساس كل لغة إخراجية رصينة لكنه يختلف في المستوى والأهمية والأسلوب من مخرج لآخر حسب مفاهيم ومكانة وثقافة كل واحد منهم. هنا أقصد المونتاج باعتباره تعبيراً عن الواقع، وكل فنان يختار الشكل الذي يناسبه لأن هذه هي أفضل طريقة يعبر بها الفنان عن موقفه إزاء العالم والواقع المحيط به وعرض مفهومه الخاص ونظرته الخاصة للحياة بطريقة أو بأخرى. هذا ليس رأيي فقط بل رأي كل المخرجين السوفييت الأوائل الذين شيدوا صرح السينما السوفياتية والمخرجين المعاصرين الذين تتلمذوا على أيديهم ولو من زاوية مختلفة نوعاً ما.
س: لنتحدث قليلاً عن فيلمك الأخير” أشيك كريب” كيف جاءتك فكرة عمل هذا الفيلم؟
بارادجانوف: في البداية كنت أفكر بتصوير فيلم الشيطان عن رواية ليرمنتوف. لكن التقنيات المتوفرة آنذاكً والتي يمتلكها الاستوديو غير كافية ولاتسعفني في تجسيد وتنفيذ تصوري لهذا الفيلم. هجرت المشروع الأول لأن فكرة فيلم “ اشيك كريب” أصبحت أهم بالنسبة لي إنها حكاية قصيرة لنفس الكاتب ليرمنتوف – بالكاد أربع صفحات – لم تترجم إلى الفرنسية كما أظن. لقد عشقت هذه القصة وقررت أن أصيغ انطلاقاً منها أربعة أجزاء للفيلم وضاعفت طوله. هي حكاية شاعر عاشق جسد دوره وأداه باتقان شاب كوردي هو جار لي وهو في الأصل إنسان متشرد صعلوك وصاحب سوابق سوقي أمضى عدة سنوات في السجن لكنه يتمتع بجمال جسدي باهر وشخصية مدهشة ومذهلة لا علاقة له بالسينما بتاتاً لكني توسمت فيه شخصية شاعر القصة وقررت أن يكون هو بطل الفيلم والجميع اعترف بحضوره الإعجازي وأنت ايضاً كنت معجباً به كما قلت لي. تصور أنا الأرمني أصنع فيلماً مسلماً في جيورجيا وأهديه إلى صديقي الراحل أندريه تاركوفسكي.
س: أين ستصور فيلمك القادم؟
بارادجانوف: في أرمينيا السوفياتية فأنا أتمتع بمكانة واحترام كبيرين هناك وثقة لامحدودة. لقد كرسوا لي ولنتاجاتي التشكيلية والكولاج الفني الذي أصنعه متحفاً باسمي بشكل دائم.
س: وعن ماذا يتحدث فيلمك القادم
بارادجانوف: عن سيرة حياة وتاريخ ومصير عائلتي منذ عهد الأجداد القدماء وحتى يومنا هذا وخلاله أعرض لطفولتي وحياة أهلي ورفاقهم. وكل ذلك يدور في مقبرة أزالتها البلدوزورات اليوم لتحويلها إلى منتزه.