طالب عبد العزيز
بمناسبة البوست الذي كتبه الروائي علي بدر بحق الشاعر المتوفى سامي مهدي. بدا لي أننا قلما نفرق بين ما هو أيديولوجي وثقافي وما هو انساني واجتماعي.
فإذا قلت لك صباح الخير وأجبتني بأجمل منها، وإذا أثنيت على قصيدة لك، أو شاركتك ما اعجبك على صفحتك في الفيسبوك، فهذا لا يعني موقفي النقدي منها، ولا يعني أنني مطابق لك بكل آرائك ومزاياك، وانتمي لأفكارك. أجد أنَّ الفيسبوك مثل المقهى ومجلس العزاء ومضيف العشيرة وهو مكان جامع ومختلف، والحديث في أماكن كهذه يحتمل المجاملة والتزجية وتمرير الحدوتة، مثلما يحتمل الموقف الحاد والرأي القاطع ووجهة النظر الخالصة، فعلام نصطرع، ويكيل بعضنا لبعضنا الشتائم؟
في روايته (الرجع البعيد) 1980 يصف فؤاد التكرلي المجتمع “بانه مجتمع لا علاقة له بأفراده الحقيقيين، أنه ليس مجتمعاً، بل فترة زمنية”. قد تبدو الجملة المقتطعة من الرواية قاسية، لكنها لا تبتعد كثيراً عن وصف الملك فيصل الاول للمجتمع سنة 1921:” .. لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أيِّ فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة” ترى هل تشكّل مجتمعنا على وفق تشكيل المجتمعات في العالم، بعد قرن من تأسيس الدولة العراقية؟ وهل نحن اسوياء في نظرتنا الى بعضنا، مأتلفين ومختلفين، هل تخلصنا من بداوتنا ومنظومة الدين والريف والقبيلة والعشيرة والطائفة، وهل نحن أمناء على الرسالة الانسانية والوطنية التي يتوجب علينا تلقيها وفهمها وارسالها لأجيالنا القادمة؟ اعتقد أنَّ لحظة عراقية كهذه لم تئن بعد.
في مجمل علاقاتنا اليومية قلما نسمع كلمة اعتذار من بعضنا، وما نقرأه على صفحات الفيسبوك لا يشي بذلك. نحن لا نصفح، ولا نعترف بخطأ نرتكبه، أو ارتكبناه ذات يوم، إنما نرفع الخطأ يافطة نشهّر بها، وكثيرا ما نبخس حق بعضنا، وهناك رغبة قاتلة بالتشفي عند البعض، واصرار على الموقف الصحيح. الانسان لدينا إمّا صديق أو خصم، وبيننا من ظل يحصي علينا انفاسنا، وينام في أجفاننا، ويتنفس هواءنا، لا ليقيل عثراتنا، إنما لينتقم منا، وإذا سألنا عن الاسباب لا نجدها، أبداً، ليست هناك اسباب، لأننا في الاصل لم نشترك معه، في واقعة ما، ولم نسبب أيَّ أذى له، فلم نحجب فرصة عنه، ولم نعطل رغبة في نفوسه.. لكنه يكرهونا، لأنه يكرهونا حسب.
تنتج بعض مناسبات السفر في الكروبات السياحية، التي تشترك فيها الاسر العراقية مختلفة التوجهات(شمال وجنوب، يمين ويسار)علاقات جميلة، ربما بلغت مبلغ المصاهرة في بعضها، ومثلها وقائع كثيرة قد تجمع الاضداد على صيرورة معينة ببدايات أجمل ، لكنْ، هل نحن قادرين على ادامتها والحفاظ عليها؟ الحقيقة تقول نحن قادرين على التنكّر لها، والتفريط بها في ايِّ لحظة، عند أيِّ احتكام سياسيٍّ أو دينيٍّ او قبليٍّ وثقافيٍّ أيضاً.
نعم، لن تنتج رحلة العلاقة هذه تماثلاً في الرأي، وتطابقاً في الغايات والاهداف، فالاختلاف سمة الوجود الانساني، لكنَّ العيش معا وبدون منغصات أسلم لنا، وهو ممكن جداً، وغير مكلف، والتواصل المتوازن وإن كان بادنى الحدود خير من القطيعة، بل القاعدة تقول بأننا راغبين في احترام الآخر، والصفح، وغضَّ الطرف، والتنازل عن ما بدر من بعضنا، ذلك لأنَّ قانون الحياة مرسوم هكذا، فلو أننا قلنا كل ما يتوجب علينا بحق شركائنا، لما أحصينا لخصومنا عدداً، فيما يقول آخرون:” لو صفحنا وتخطينا عثرات بعضنا وتجاوزنا عمن أساء لنا لبخسنا حق انفسنا في الظلم”. الذي هو من شيم النفوس عند المتنبي.
سألوا الجواهري مرة :” لماذا تمدح الملك فيصل الاول؟” فأجابهم:” ماذا أقول لمن يقول لي صباح الخير؟ هل ابصق بوجهه؟” و كلَّ ما فعله مارتن هيدجر لخصمه أستاذ كرسي الفلسفة في جامعة فرايبورغ الفيلسوف هوسريل أنه رفع الاهداء الذي كان اليه من الطبعة الخامسة لكتابه(الكينونة والزمن) وأعترف بخطئه حين لم يحضر مراسيم تشييع جنازته، الفعل الذي قال عنه بانه (خطا انساني) ثم انه اعتذر امام السيدة هوسريل في رسالة بعث بها اليها.
كان هابرماس يقول بعدم صحة إطلاق الاحكام انطلاقا من المعايير الاخلاقية على الذين يتجسد فيهم التاريخ الكوني، وهذه مسألة لا نجد لها صدى في مقولاتنا الاجتماعية والثقافية.