ستار كاووش
أن تستأجر بيتاً خشبياً وسط إحدى الغابات، لقضاء وقت من المتعة والتأمل، فهذا أمر طبيعي في بلد مثل هولندا تتوزع فيه عشرات الآلاف من هذه البيوت في الغابات التي تشغل مساحة واسعة من هذا البلد وخاصة في جزءه الشمالي.
وسيكون الأمر ممتعاً حين تكون هناك صحبة أصدقاء وصديقات وقضاء يوم أو بضعة أيام. لكن أن تستأجرَ بيتاً مع أصدقاءك وصديقاتك قرب مسرح صيفي وسط الغابة وفي الهواء الطلق، ثم تعودون بعد العرض لتقضوا وقتاً نادراً تمتد فيه الحوارات طوال الليل، هنا سيكون للوقت طعماً آخر، حيث تتداخل المتعة بالمرح وتكون الساعات ثمينة ولا تُريدونَ لها أن تنتهي. هذا ما قمنا به هذا الأسبوع حين إستأجرنا بيتاً أنا وأليس وفيخر ويانكا وهيكا، بيتاً فيه كل المواصفات التي نحتاجها لقضاء مثل هذا الوقت. في الحقيقة يبعد العرض المسرحي عن مدينتنا أقل من ساعة بالسيارة، وكان بإمكاننا العودة في ذات المساء، لكننا أردنا أن نخرج من البيوت التي تعودنا عليها رغم أُلفتها، لنعيش ليلة وسط غابات درينته التي تفترش الأرض مثل رداء أخضر. إنطلقنا كالعادة بسيارتين كانتا كافيتين لحمل كل أغراضنا وما نحتاجه لهذا المغامرة الصغيرة، وما أن وصلنا حتى وضعنا كل شيء نحتاجه فى البيت وملأنا الثلاثة بالأكل والنبيذ الأبيض، لحين عودتنا من العرض المسرحي الذي سنحضره. مع ذلك كان علينا حملَ جزء من الطعام والشراب معنا ونحن متجهين للعرض، لنقتات عليها -كما يفعل الجميع هنا- وقت الإستراحة بين جزءي العرض المسرحي. وبما إن مسرح مدينة ديفر قد تخصص منذ ستة وسبعين سنة بمسرحيات شكسبير فقط، لذا من الرائع أن نشاهد في هذه الليلة عرضاً أخاذاً لمسرحية (تاجر البندقية). أخذنا أماكننا كجمهور على جانبي خشبة المسرح المفتوح، بإنتظار العرض، حيث إمتدت قناة مائية من يمين المسرح الى يساره، وهكذا صار كل جزء من الجمهور على جانب من جانبي هذه القناة. إنتظرنا في أماكننا عشرين دقيقة تقريباً، حتى جاء وقت العرض، الذي إبتدأ فجأة ببعض الفتيات اللواتي خرجن من عمق الماء بملابس السباحة، ولا أعرف كيف بقين كل هذا الوقت في عمق المياه. ووسط دهشتنا كجمهور قطعت هذه الفتيات، المسافة بين جانبي المسرح سباحة، ليختفين بعدها خلف الكواليس، يتطاير منهن رذاذ الماء. لتبدأ الحكاية التي يعرفها الجميع تقريباً حول التاجر أنطونيو الذي إستدانَ نقوداً من المرابي شايلوك، ليساعد بها صديقه بسانيو. لا أريدُ هنا أن أسرد الحكاية لأنها شائعة تقريباً، لكن الأمر الذي أدهشني هو طريقة العرض التي إستخدم فيها المخرج تفاصيل لم تخطر على بال أحد. فرغمَ إن هذه المسرحية قد تمَّ عرضها آلاف المرات في كل أنحاء العالم، لكن مع ذلك مازال هناك من يُقدمها بشكل جديد. وقد تحول العرض هنا الى مسرحية هولندية إتكأت على حكاية شكسبير لتحولها الى شكل جديد وجميل وباهر على طريقة مسرح بريخت حيث تداخل الجمهور مع الممثلين وباقي أدوات العرض. المفاجئة كانت في الجزء الأخير من المسرحية، عند وقوع شايلوك في الفخ جراء شر أعماله، فيسخر منه أنطونيو وبسانيو والقاضية وكل من على المسرح تقريباً، حتى وصل التنكيل به لدرجة صعبة الإحتمال، ورأيت بعض الممثلين تمادوا كثيراً في إذلال شايلوك وإهانته، حتى أوشكَ على الإنهيار، ووسط الاندماج في هذا المشهد، حاول الممثل ديك فان فين الذي يمثل دور شايلوك أن يكون متماسكاً، لكنه لم يستطع، فإنتفضَ وتوقف عن إكمال التمثيل، وبشكل مفاجيء نظرَ الى الجميع بغرابة يشوبها الألم، ثم غادرَ خشبة المسرح وسط ذهول الجميع، وهنا ناداه أحد الممثلين بإسمه الحقيقي ( هيييه ديك، الى أين؟) ليردَّ عليه ديك وهو يشق طريقه وسطنا كجمهور (لا أستطيع تحمل هذه الطريقة في التمثيل، سوف لن أُكمل المسرحية) ووسط بعض الصمت غابَ هذا الممثل خلف الأشجار الخلفية لمكان العرض. حاول بعض الممثلين تدارك الموقف، حيث تغيرت الإنارة بعض الشيء وبدَّلَ بعض الممثلين أماكنهم، ثم مضتْ المسرحية الى نهايتها دون إكمال هذا المشهد. والغريب في الأمر، حين حضرَ جميع الممثلين بعد انتهاء العرض لتحية الجمهور، ماعدا ديك الذي خرج فعلياً ولم يعد. والأغرب من كل ذلك هو ماحدثَ بعد خروجنا من العرض، فقد شاهدتُ ديك بمحاذاة المسرح، يقف قرب طاولة مرتفعة ويتناول قدحاً كبيراً من الجعة، وجموع من المشاهدين يشيرون اليه وهم في طريقهم الى الخارج، والكثير منهم سأله عن سبب خروجه، وهل كان هذا جزءً من العرض؟
تركنا المكان، حيث تتقافز الأسئلة وإيماءات المسرح واحتفال الممثلين وجموع المشاهدين. وعدنا الى بيتنا الخشبي، وملأنا الطاولة الخارجية التي إنتصبت بجانب البيت بكل ما نحتاجه. هناك وسط الغابة، تداخلت التحليلات والإنتباهات والكثير من التفاصيل التي تتعلق بالعرض المسرحي. نظرتُ الى وجوه أصدقائي نصف المضاءة، وأعدتُ نظري الى الطاولة حيث ضوء الشموع التي أحضرَتها يانكا وهيكا وهو ينعكس على قطع الجبن وأطباق السمك، فيما تطايرَ عطر النبيذ وسط الأشجار ولامسَ الظلام المحيط بالبيت، ذلك النبيذ الذي كان يشبه المساء الذي إحتوانا، كان يشبهه كثيراً، فهو مثلهُ لا يُريد الإنتهاء أبداً.