TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > طاعون الحكومة

طاعون الحكومة

نشر في: 18 نوفمبر, 2012: 08:00 م

يكتب ألبير كامو في روايته الطاعون: حين يعم الوباء تزحف المقابر إلى قلب المدينة.. في قراءاتي المبكرة لم احب رواية كامو هذه فقد كنت اشعر أنها تثير الغثيان.. ومع مرور الزمن اكتشفت معنى أن يحذرنا الكاتب من جرثومة الوباء، فنحن ازاء طبيب ظل حتى اللحظة الأخيرة، ورغم كل الشواهد يعتقد أن الوباء بعيد عن مدينته، ونراه يتساءل دوما هل يعقل ان يغزو الطاعون المدينة؟ لكنه في النهاية حين يرى الناس تتساقط في الشوارع، يدرك ان الوباء قد حل.
أتذكر أنني أعدت قراءة الطاعون فيما بعد أكثر من مرة كانت آخرها قبل أيام، لأجد نفسي إزاء حكاية أخرى للوباء الذي يفتك بنا جميعا، واعني به وباء الانتهازية والمصلحة الشخصية.. حين ينتشر الطاعون في مدينة كامو نجد الساسة والمواطنين يصبحون أسرى داخل المدينة، فيما يبدل الوباء معالم العلاقات بينهم، فنحن هنا لسنا إزاء مرض قاتل  فقط، وانما بمواجهة التغيير الذي يحصل في علاقات الناس، فالمسؤول يبيع للناس طمأنينة زائفة مقابل ان يحصل على مزيد من الثروات مستغلا خوفهم وقلقهم، ورجل دين يدعوهم إلى طريق الهداية، فالطاعون غضب من الخالق على عبادة المنحلين، فيما البسطاء يدفعهم الخوف إلى التخلي عن مصالحهم الشخصية لمساعدة الآخرين.
في واحدة من أجمل حواراته يحاول كامو ان يعلمنا معنى ان يتربى الظلم والطغيان والوباء في احضاننا: "ينشأ الشر في العالم عن الجهل، وربما تسبب النوايا الحسنة من الضرر بقدر ما تسبب النوايا إذا افتقرت إلى الفهم، ولعل اكثر الرذائل المستعصية على التقويم هي من قبيل جهل الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدعي لنفسه الحق في قتل الآخرين". وردا على سارتر الذي كتب ينتقد الرواية من أنها تؤسس لأخلاق تسقط التاريخ ولاتجاه نحو العزلة السياسية، يؤكد كامو في رسالة الى صديقه اللدود: "لا أرى مناقشة جدلية للرد عليك سوى عشق جارف للعدل وهو ما يبدو لي خارجا عن المنطق.. انك ببساطة ترى اليأس بمنظارين، أما أنا فأرى اليأس وقد توزع على الجميع.. ولا دواء للطاعون إلا بإعلاء شأن العدل ومحاربة الجور الأبدي، وان نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. في رفضي لليأس ولذلك العالم المعذب، إنما أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربا على قدرهم البغيض".
يعلمنا كامو أن الأمم لا يصيبها الوباء إلا عندما يستبيح الظلم الناس.. في موسوعته الكبيرة "صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية" يخبرنا المؤرخ ادورد غيبسون بان الامبراطوريات تسقط عندما يستبيح الحاكم لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وايضا عندما يستبيح الحاكم لنفسه استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الوطنية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح الحاكم ابواب التنكيل والتهميش والإقصاء والقتل، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن حكامها بان الحرية حق، والأمان حق، وحب الحياة حق، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادلا معهم أكثر من عدله لذاته، وان يعتبر الحكم امانة والدولة حراسة، والمال حاجة للجميع الأفراد، وان يقود الناس الى حسن الحال وحسن المستقبل وحسن المعاملة.
في احدى قصائد بريخت  تصبح كل المدن ملعونة  فقد اصابها طاعون الاستبداد والتسلط، الا مدينة الحلم "بينارس" انها الخلاص المرتقب ، لكن الطاعون  يزحف اليها مثل الموت  لنفاجأ بحلم الشاعر يتهاوى:
اسوأ الانباء ما يقال
ان "بينارس" اصابها الوباء..
 في مدن الطاعون نعيش مع ساسة يحولون الحق إلى ضلالة والحياة إلى جحيم يكتوي بنارها معظم العراقيين، كم مثير للاشمئزاز إن الساسة الذين كانوا يطالبون بالحرية نراهم اليوم يمارسون الوحشية والاستبداد التي مارسها صدام وأبناؤه ومقربوه من قبل، في مدن الطاعون تغيب العدالة وتصبح الديمقراطية مجرد واجهة لسرقة احلام الناس ومستقبلهم، لتتحول إلى شعارات وخطب يلقيها علينا صباح كل يوم مجموعة من الانتهازيين واللصوص والمزورين، ديمقراطية  شعارها التفاهة والسفاهة والبلادة والشراهة، ومضمونها إقصاء الكفاءات والخبرات واحتضان أصحاب الصوت العالي والصاخب؟
في نهاية الرواية يعلمنا بطلها ريوكس أن النضال ضد الطاعون مضن مثل صعود الجبل: "في ذلك الوقت طاف عدد من الفلاسفة السذج بلدتنا معلنين انه ما من شيء يمكن عمله حيال الطاعون ولابد ان نذعن له.. فيما تعلمنا الحياة ان هناك وسيلة واحدة للخلاص،  فقط هي محاربة الوباء".
واعتقد هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العراق من طاعون أسمه الحكومة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

صحيفة عبرية: "إسرائيل" وأميركا يخشوّن أنصار الله كونها جهة يصعب التغلب عليها

الأنواء تحذر من رياح عالية في العراق

مقتل إعلامية لبنانية أمام المحكمة

لا حلول لـ"الشح".. العراق يلوح بـ"تدويل" أزمة المياه مع تركيا لزيادة حصصه

اعتقال قاضي المحاكم الميدانية في سجن صيدنايا بسوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: محاكم تفتيش نقابة المحاميين

العمود الثامن: كلمات إماراتية واطلالة عراقية

العمود الثامن: السخرية على الطريقة العراقية

العمود الثامن: محبة المسيحيين

التأثير السياسي التركي في سوريا بعد سقوط الأسد: الأهداف والاستراتيجيات

العمود الثامن: في الولاء الوطني

 علي حسين يعتقد العديد من مسؤولينا أن بلاد الرافدين التي يحكمونها الآن كانت تعيش في عصور الجاهلية، وقد قيض الله لها رجالا ليعيدوها إلى طريق الصواب، ولهذا ليس مهما توفير التنمية والازدهار والتعليم...
علي حسين

كلاكيت: المخرجون عندما يقعون في غرام الأدب

 علاء المفرجي 5 -لوليتا رواية للكاتب الأمريكي من أصل روسي فلاديمير نابوكوف، نُشرت في عام 1955 في باريس، فبطل الرواية همبرت همبرت هو أستاذ أدب في منتصف العمر مريض بشهوة المراهقين، يرتبط بعلاقة...
علاء المفرجي

النُّصيريَّة.. مِن سامراء إلى قرداحة

رشيد الخيون تُنشئ السّياسة المذاهب عند اقترانها بالدِّين، لكنْ بتعاقب الزَّمن، تنسحب وتبقى العقيدة الدّينيَّة خالصة، وبين حين وآخر يُستغل المذهب مِن قبل السَّاسة المنتمين إليه، هذا ما حصل مع النُّصيريَّة بسوريّة، فقد نشأت...
رشيد الخيون

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

محمد الربيعي* (الحلقة 11)التجربة الامريكيةفي قلب النظام التعليمي الامريكي، تكمن فكرة اللامركزية، حيث تتنحى الحكومة الفيدرالية جانبا لتفسح المجال امام الولايات والحكومات المحلية لتولي زمام الامور. هذا يعني ان كل ولاية، بل كل منطقة...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram