طالب عبد العزيز
بعد جملة المصائب التي تسببت بها حكومات الاسلام السياسي وحزب الدعوة بالذات، هل يحق لأحدنا أن يترحم على قياديٍّ فيه؟ نعم. أنا أرثي، وأترحم، ويتفطر قلبي ألما، على رحيل العم أبي صاحب(الحاج كاظم التميمي) أحد مؤسيي حزب الدعوة، الانسان،
والشخصية البصرية، والعراقية، والعربية النبيلة، الذي فقدناه غريباً، بعيداً، شبه منفيٍّ، في جنوب الغرب الامريكي، حيث توفاه الحنين هناك، أو لنقل قتلته الغربة، بعيداً عن حلمه، في بلاد خالصة لأهلها، غير أسيرة بيد أحد، هو الذي عانى الامرين، طوال نصف قرن من الزمان، لم ينصفه الحزب الذي كان أول مؤسسيه، ولا النظام الذي التجأ اليه(إيران) بعد أن رفض إلا أن يكون عزيزاً، صادقاً، منسجماً مع الافكار التي آمن بها، فمات جسداً وظل روحاً، تعلمُنا معنى الرفض والخلود.
لم أسمع عن شخصية في الزمن العراقي الاخير، زمن التكالب على المال، وشراء الذمم، وسرقة النفوط والبنوك، والتفنن في إزهاق الارواح، عن شخصية زهدت بالدنيا وما عليها، وذهبت بكليتها الى بعث الروح في القيم الانسانية إلّاه، ولم أحظ بلقاء أحدٍ لأتعلم منه النبل والعفة والطمانينة، فضلاً عن الرأي والتعقل في التدين، وعدم الغلو، وكل صفات الانسان وفطرته قبل أنْ تضطرني حياتي بالفزع واللجوء اليه، إثر تهديد أحدى الدوائر الامنية في البصرة لي سنة 2006 فقد ذهبتُ له عملاً بنصيحة أحد تلامذته النجباء، الذي قال لي بالحرف الواحد: (إذهبْ له) فعنده منجاتك. ذهبت، وبظني أنني ساجد رجلاً محاطاً بالحماية والبنادق، يملك قصراً فخماً، صعب الدخول عليه.. لكنني، لم أر ذلك كله، فقد وجدته رجلاً خصيبياً، بزي الفلاحين البسطاء، زاهداً في ملبسه، وأثاث بيته، وكل ما بين يديه، يعتمر كوفية بيضاء، جعلها على رأسه دونما عناية منه، فأخذت منه أمان رقبتي التي كانت بيد غيره.
في الاعوام 2006-2008 وبعد ان رفض كل اغراءات حكومة المالكي ورفاقه، الذين عبثوا بمال الفقراء، ولم يقبل من أيهم العروض الكبيرة، ظل معترضاً على أدائهم، رافضاً لسياساتهم، متقرباً الى ابناء الطائفة السنية، بعد سلسلة المقاتل التي تعرضوا لها، يصلي في مساجدهم، ويحضر مجالس عزائهم التي كثرت في السنوات الدامية، وقد اضطرته صروف حياته الى العمل مصححاً لغوياً في إحدى الصحف المحلية، براتب لا يتجاوزالـ 500 ألف دينار عراقي، ينفق جلّه على المساكين والمحتاجين. برما من أعضاء حزبه وسلوكهم، محتفظاً بآراء ومواقف مختلفة عن طقوس وعبادات طائفته الشيعية، فهو يصلي على ورق السدر أو الخوص، ويحتفظ بكمية منها في جيبه دائماً، وظل مصراً على عمله في التقريب بين أبناء المذهبين، والحديث الدائم في الوحدة الاسلامية.
ظل العم أبو صاحب مصراً على عراقية ووطنية حزب الدعوة. يقول الباحث في الفلسفة الاسلامية علي المدن: “في مطلع الثمانينات حصل الانشقاق الأكبر والأخطر في حزب الدعوة. كان هناك اتجاهان: اتجاه يرتبط بقائد حزب الدعوة وأحد أهم مؤسسيه وهو محمد هادي السبيتي، ويصرُّ على التمسك به بوصفه القيادة التاريخية الشرعية، وأغلب أعضاء هذا الاتجاه من البصريين لذا يسمى بـ (جناح البصرة). واتجاه آخر يقوده بعض رجال الدين من أصول إيرانية، يصرُّ على إعادة هيكلة الحزب، وبنائه تنظيميًا وفكريا وفق المتغيرات الجديدة (انتصار الثورة الإيرانية، وبروز قيادة أية الله الخميني، وسيادة نظرية ولاية الفقيه، ونشوب الحرب بين ايران والعراق … إلخ)، ويرأس هذا الاتجاه محمد مهدي الآصفي ومرتضى العسكري وكاظم الحائري وغيرهم.
وبحسب المدن ايضاً فقد “قضى كاظم يوسف التميمي بقية حياته في ايران وهو يبيع الرقي والطماطم في شوارع الأحواز قبل ان ينتقل لاجئا إلى اريزونا في امريكا. وظل مصرا على قطيعته مع حزب الدعوة حتى بعد التغيير 2003 ليموت غريبا».
هذه الشخصية الفريدة في انتمائها، والقوية في بنائها، والامينة على مبادئها الانسانية لم تهزها إغراءات المال والجاه. لم يكن فقيراً بالمعنى العام للفقر، إذ يحدث أن يكون جيبه مليئاً بالدنانير، لكنه ينفقها على من يعرفهم من المحتاجين، ويكتفي منها بالقليل، وإذا فرغ جيبه ملأه بثمر الكنار(النبق) الذي يجنيه من سدرة البيت، فيخرج به الى معارفه وأصدقائه، باسماً مستبشراً الخير. قبل أن ينتهي به المطاف في ولاية فرجينيا بأمريكا عمل اميناً لمكتبة ابي الخصيب، مثل أي موظف أرشيف، تتقدمه عويناته الى الكتب والقراطيس، يقلبها، يفتش فيها عن مآل الظلام في نفوس الأخرين، وقد أشرقت روحه بما انطوت عليه من العفة والنبل.
جميع التعليقات 1
عدي باش
لمسة وفاء كريمة .. الرحمة و الذكر العاطر للفقيد الفاضل