TOP

جريدة المدى > عام > العابرون لحدود التخصص المعرفي..عطشى لايرتوون من ينابيع المعرفة

العابرون لحدود التخصص المعرفي..عطشى لايرتوون من ينابيع المعرفة

نشر في: 6 سبتمبر, 2022: 11:17 م

لطفية الدليمي

أحد الأسئلة التي تلحُّ عليّ - وقد يلحّ على معظمنا – هو : لماذا لانرى نظائر لكبار فلاسفة وعلماء عصر العقلنة والتنوير في أيامنا هذه ؟

لماذا لانشهدُ ( لايبنتز ) أو ( سبينوزا ) أو ( نيوتن ) في ثوب معاصر ؟ لايُقصَدُ من هذا السؤال بالتأكيد القولُ بعدم وجود فلاسفة أو علماء رفيعي الطراز في عصرنا هذا ممّن يماثلون رفعة أسلافهم ؛ لكنّ المقصود الدقيق هو التالي : لماذا لم نعُدْ نشهدُ في عصرنا هذا شخصياتٍ تمتلكُ إمكانات معرفية عابرة للحدود القارّة وخارقة في مدياتها بالقدر الذي تجعل صاحبها مستحقاً لأن يوسم بخصيصة كونه خارق المعرفة في ميادين مختلفة Polymath وعلى نحو مافعل لايبنتز أو سبينوزا أو نيوتن او سواهم ؟ هناك بالطبع فيزيائيون عظماء في عصرنا ، وكذا يوجد رياضياتيون وفلاسفة وكيميائيون وأدباء وروائيون وعلماء اقتصاد واجتماع ذائعو الصيت ؛ لكن لايوجد بينهم من جمع أطراف هذه التوجهات المعرفية في إهاب شخصية واحدة ، أو في الأقلّ فإنّ سمات عصرنا وأنساقنا التعليمية وطرازاتنا الثقافية ماعادت تشجّعُ بزوغ مثل هذه الشخصيات .

قد يبدو مثال انسان عصر النهضة Renaissance Man ، المعقلن التوّاق للترحل بين غابات المعرفة ، مثالاً بعيداً وعصياً على التحقق في أيامنا هذه ، ولو سألنا طائفة واسعة من البشر ذوي الخلفيات المهنية والعلمية المتباينة فلعلّهم سيشتركون في رؤية واحدة : إنّ مثال عصر النهضة لم يعُد قائماً بيننا لأسباب كثيرة أهمها تعقّد أبواب المعرفة ، وكثرة مصادرها ، والتفجر المعلوماتي الرهيب إلى جانب جملةٍ من أسباب أخرى إستوجبت سيادة فكرة التخصص ، وهكذا صار المتخصصون Specialists أحد أبرز عناوين حياتنا .

لكن في مقابل هذه المقاربة التخصصية تشيع اليوم مقاربة أخرى مضادة لها ترى بأنّ المتخصصين بمستطاعهم بلوغ سقوف بحثية و معرفية محدّدة يقفون عندها ولايستطيعون تجاوزها ، وأنّ عدم القدرة على التجاوز لاينبعُ من نقص في أدواتهم المعرفية وإنما لافتقادهم إلى رؤية صورة أشمل للروابط الخفية بين الموضوعات التي قد تبدو متنافرة للوهلة الأولى . صارت الدعوة إلى إشاعة نمط العابرين للتخصصات The Generalists تلقى قبولاً متزايداً في الدوائر الاكاديمية والعامة .

ظهرت في السنوات الأخيرة العديد من الكتب التي تناولت هذه الموضوعة ، ولعلّ من أكثرها صيتاً وشيوعاً وتحقيقاً لمقروئية عالية هو الكتاب المعنون « المدى : لماذا يحقق العابرون للتخصصات انتصارات كبرى في عالم غارق في التخصص ؟ «

Range: Why Generalists Triumph in a Specialized World

الكتاب منشور عام 2019 ، ومؤلفه هو ديفيد ابشتاين David Epstein . تكفي صورة غلاف الكتاب لتكون دلالة لاتخفى على طبيعة الموضوع ؛ إذ ثمة عدد من المفاتيح مربوطة في حزمة واحدة ؛ الأمر الذي يشير إلى أنّ العابرين للتخصصات صاروا بمثابة موجدي حلول لمشكلات Problem Solvers باتت تهدد وجودنا الحيوي على هذه الأرض .

« هناك أشياء كثيرة في الأرض والسماء ياهوراشيو غير التي حلمت بها في فلسفتك « : بهذه العبارة يخاطب هاملت صديقه هوراشيو ، مؤشراً إلى حقيقة وجودية جوهرها « استيلاء النقص على جُملة البشر « كما يعبر عماد الدين الاصفهاني . النقص هنا ، وهو نقصٌ معرفي ، ليس نقصاً معيباً أو مثلبة أخلاقية بقدر ماهو إشارة إلى طبيعة ملازمة للوجود البشري . لنقلْ أنه خصيصة إبستمولوجية لامفرّ من نكرانها أو الالتفاف عليها لأنها بعضُ طبائع المعرفة البشرية المقترنة بعاملين يعملان ضديدين لبعضهما : تفجّر معرفي من جانب ، وتضاؤل في حدود المعرفة الفردية من جانب آخر .

يعيشُ أغلبنا غير مبالٍ بهذه الخصيصة الملازمة للوجود البشري ؛ فهو يكتفي بأن يلمّ بجانب من المعرفة البشرية ليطوّعها بصورة عملية تكفلُ له خبرة محدّدة في نطاق ما ، وهو مايتكفّلُ بتدبير لوازم عيشه . هكذا نشأ المتخصّص Specialist ، ونشأت المهنة Career المعتمدة على تخصص في نطاق عملي أو أكاديمي ، وتطوّر الامر حتى استحال قبولاً جمعياً على نطاق عالمي .

لكن ثمّة أناسٌ في هذا العالم لايقتنعون بهذه الترسيمة القارّة . قد يكون هؤلاء من المتخصّصين ؛ لكنّ صدورهم تضيق لو مكثوا في نطاق مهنهم أو تخصّصاتهم وقتاً طويلاً ؛ لذا يفرِدُ هؤلاء جزءً من وقت يومهم للبحث والاستكشاف في نطاقات معرفية غير تلك التي تخصّصوا فيها ، وفي الغالب يتحوّل هذا الطقس إلى عادة يومية : ساعتان أو ثلاث ساعات ماقبل النوم - مثلاً - يفردُها المرء للقراءة في كتبٍ محدّدة قد تكون بعيدة للغاية عن نطاقه المعرفي . هي بعيدة بحسب مايعتقد الناس ؛ لكنها ليست بعيدة بحسب مايرى ذلك الشخص لأنه وحده من يرى خيوطاً خفية بين الحقول المعرفية . أمثالُ هؤلاء يوصفون في الأدبيات الحديثة بأنهم عابرون للتخصصات Generalists ، وتعريفهم الدقيق هو الناس الذين يجدون ولعاً طاغياً وشغفاً لاحدود له في إستكشاف نطاقات معرفية مختلفة ، واكتشاف روابط خفية بينها ، وهم لايطيقون المكوث في ساحة معرفية واحدة ، ولو أجبِروا على هذا الأمر فقد يتطوّر الأمر لديهم إلى حالات إكتئاب عنيدة وتداعٍ في القدرة على العمل والانتاج ؛ بل قد يستحيل الأمر ذهاناً عقلياً خطيراً له تبعاتٌ مأساوية .

لكن لنكنْ دقيقين ومحدّدين في توصيف الأمور : العديد منّا قد يجدُ لذّة في بعض القراءات المغايرة لسياق تخصصه ؛ غير أنّ هذا لايعني أنه صار من جماعة الـعابرين للتخصصات . مايميّز هؤلاء الأخيرين هو شغفٌ طاغٍ لاحدود لمدياته ، وعملٌ مثابر لايعرف النكوص والتراخي ، والانكباب على قراءات معرفية دقيقة وليس محض قراءات سياحية عابرة . نحنُ إزاء أناسٍ شديدي الانضباط ولديهم حساسية – تكاد أن تكون مرضية – تجاه فواعل الزمن . لايريدون إضاعة دقيقة من غير فاعلية منتجة من وجهة نظرهم .

هل يمكنُ أن يكون أحدنا واحداً من هؤلاء الـعابرين للتخصصات ؟ نعم بالتأكيد ، لو تملّك ذلك النوع الخارق وغير المعهود من الشغف ، وامتلك وصلة إنترنت . الانترنت صار صندوق أعاجيب الدنيا ، وكلّ ماتقدّمه كبريات الجامعات والمعاهد العالمية المرموقة صار متاحاً لنا ، وليس ثمّة من حجّة نقص المصادر المعرفية تقف عائقاً . يقدّم لنا الانترنت كلّ يوم نماذج متقدّمة من هؤلاء ، وهم كثرٌ . هاكم مثالاً : سيهاو هوانغ Sihao Huang ، السنغافوري الصيني الاصل ، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وهو شاب ، يدرسُ الفيزياء والرياضيات والهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في معهد MIT المعروف بسمعته الأكاديمية العالمية ، ويخطّط لتطبيق رياضيات النظم المعقدة على نطاق العلوم السياسية ، وقبل مواصلة دراسته في قسم العلوم السياسية في MIT إرتأى أن يأخذ فسحة دراسية يقضيها في جامعة أكسفورد لدراسة منهاجها الدراسي الثلاثي الشهير في الفلسفة والاقتصاد والسياسة .

مثال آخر : تابعتُ قبل بضعة شهور حكاية البروفسور مانفرد شتاينر Manfred Steiner ، المواطن النمساوي – الامريكي الذي احتفل قبل بضعة شهور بعيد ميلاده التسعيني ، وسيكون لهذه الإحتفالية طعمٌ خاص لأنّ شتاينر سُجّل إسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر شخص حصل على الدكتوراه الثانية وهو بهذا العمر .

المثيرُ في حياة شتاينر أنه ظلّ مشغوفاً كلّ حياته المهنية بالعمل على تحقيق حلمه : أن يكون فيزيائياً . أنهى شتاينر دراسته الثانوية في فيينا مع نهاية الحرب العالمية الثانية ، ونصحه حينئذ عمه وأمه أن لايغامر بدراسة الفيزياء لأنها قد تكون توجهاً مهنياً بعيداً عن متطلبات أوربا عقب نهاية الحرب . كان الطب هو مانصحاه به ؛ فلم يخذلهما ، وفي الوقت ذاته لم يخذل حلمه ويتركه ينزوي في قعر النسيان . درس شتاينر الطب ، وحصل على شهادة M.D. المعروفة فيه ، ثمّ هاجر إلى الولايات المتحدة ودرس في جامعات عدّة حتى حصل على شهادة الدكتوراه الأولى في حقل الكيمياء الحيوية ، وعمل في الوقت ذاته أستاذاً لعلم أمراض الدم Hematology في جامعة براون . تقاعد شتاينر من عمله عام 2000 وهو في سن السبعين ، وهنا بدأ بالإمساك بحلمه القديم الذي لم يطوِهِ النسيان ؛ فحضر دروس فيزياء أولية ومتقدّمة في MIT الشهير في مدينة بوستن ، ثم نقل دراساته إلى جامعته القديمة ، جامعة براون . توّج شتاينر حلمه بالحصول على دكتوراه في الفيزياء النظرية قبل بضعة أسابيع من يومنا هذا . كان شتاينر يبتغي أول الأمر الحصول على دكتوراه في الفيزياء النووية ؛ لكنّه فضّل الفيزياء النظرية آخر الأمر لأنه لم يشأ ان يستخدم في دراسته أكثر من دماغه مدعوماً بحاسوب وأقلام وأوراق . ثمة الكثير من الحديث المسهب عن عمل شتاينر في الموقع الرسمي لجامعة براون ، وسأكتفي بالقول أنه عمل ينتمي لحقل البحوث الأساسية في الفيزياء . ليس بوسع الواحد منا سوى أن يمتلئ نشوة وبهجة عند قراءة مثل هذه الأخبار التي تكشف لنا حيوية العقل البشري وقدرته اللانهائية على الإبداع الخلاق .

هاملت على حقّ بالطبع . سيكون طموحاً غير قابل للتحقق إن نحنُ سعينا لمعرفة كلّ مافي السماء والأرض ؛ لكن يمكن لكلّ منّا أن يفهم أشياء – ولو قليلة – ممّا في السماء والأرض لو امتلك شغفاً لاحدود له ، ووصلة إنترنت . تلك حقيقة ماثلة لاأظنها ستكون موضع خلاف بعد اليوم .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram