حيدر المحسن
كانت الشّاعرة (إيتيل عدنان) في رحلة وسفر طويل بين المدن، وتبعث من كل مكان رسائل إلى الصِّحافي (فوّاز)، ثم جمعتها في كتاب يحمل عنوان “عن مدن ونساء. رسائل إلى فوّاز”. (إيتيل عدنان) شاعرة كونية إذا صحّ التعبير، فهي مولودة في بيروت من أب سوريّ وأمّ يونانية، جنسيتها أمريكية وتسكن باريس، وتكتب الشّعر والرواية باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وهي رسّامة بالإضافة إلى ذلك، وأقامت معارض عديدة ولها أسلوبها الخاصّ.
وهي في إسبانيا، وعند ضواحي مدينة (ايكس) الريفية كتبت الشاعرة: «يمكن أن يُقال إن هذا البلد برمّته ما بعد ظهيرة طويلة ومديدة”. كان يُقام في المدينة معرض للرسام (سيزان) خاصّ بجبل (سانت فيكتوار)، لوحات ومائيات تصوّر الجبل وحده. إن النور الساطع في هذه البقعة من الكون لا يرحم: «أعتقد أن هذا ما دفع (سيزان) إلى السكن هنا، لأن هذا النور سوف يسمح له بالمضيّ في طريقه إلى النهاية”.
في السنة الماضية اندلع حريق هائل التهمت نيرانه جميع أشجار التلال الواقعة عند أسفل الجبل، تاركة تربة سوداء مخيفة. اجتمع الاثنان في استقبال الشاعرة في (ايكس): النور والنار: «ثمة إحساس بالنار، إحساس بآثار الحريق في قيظ تموز، يغلّف هذا الجبل الذي أضحى صخرة عملاقة موحّدة». إن فكرة الخصوبة مرتبطة بصورة وثيقة بالأنوثة، وعندما يصيب الطبيعةَ الجفافُ والحريق يقلّ حجمُ الأنوثة وطعمها في الكون. الأرض في البَرّ الفسيح والمفتوح إلى الجهات أنثى، وفي المدينة ذكر، هكذا تفكّر الشاعرة، وتأتي بالآية القرآنية «نساؤكم حرث لكم» دليلا. ثم تفتش في الأساطير بحثا عن دليل آخر:»في ملحمة (كلكامش) تطلق (عشتار) العنان لغضبها حين يقتل (كلكامش) إلهَ غابات لبنان. وفي النهاية يموت الملك السومريّ، وقد حُرم من الخلود”. كما لو أن للطبيعة إلهًا هو الأقوى، هو إله الأنوثة الذي أخذ ثأره من الملك لأنه ارتكب هذه الجريمة. وتتساءل الشّاعرة في الأخير “ما الذي نخسره حين نخسر غاباتنا وأساطيرنا؟ أسطورة الأنوثة تتلاشى”.
في نهاية زيارتها إلى إسبانيا تسمع الشاعرة من الراديو أنّ العراق احتلّ الكويت، وتكتب إلى (فوّاز): «ليس هذا نذير خير. سوف أدع تأملاتي لوقت لاحق”.
*
«أقول لنفسي إن السفر مشابه جدا للوقوع في الغرام»، تقول الشاعرة، وفي كانون الثاني من ذلك العام، 1990، تصل إلى ألمانيا. في مطار فرانكفورت كانت الطائرات الحربية الأمريكية مرصوفة وجاهزة للانضمام إلى بقية الأسطول الجوّي المتوجّه إلى الخليج، وتكتب (إيتيل): «يا لها من طريقة للقاء أرض جديدة». في مدينة برلين كان المشهد مختلفا تماما، وكان الناس يعبّرون عن رفضهم للحرب بنشرِ شراشفَ بيضاءَ كبيرةٍ على الشّرفات وخارج النوافذ: “وجدتُ عزاء في هذه الأعلام البيضاء الهشّة لكن الصاعقة، تحاول أن تتحدث من بعيد إلى الشعب العراقي، قبل أن تنهمر عليه جحيم القنابل، تحاول أن تقول للبعض منه إن عددا قليلا من الناس هنا عقدوا صداقة إنسانية معهم، متحدّية كل القوى الكبرى”. توقفت بعد قراءة هذه الرسالة عند كلمتين اثنتين هما: “البعض، وقليلا”. وأتابع مع الشاعرة: “أكثر ما أثار اشمئزازي كان سماع طيّار أمريكي يقارن مشهد بغداد وهي تحترق بشجرة ميلاد!”.
وأعود بذاكرتي إلى حرب الخليج الثالثة، وكنت التقيتُ مع جندي أمريكي من القوات التي احتلّت العراق، سألته إن كان يعرف وليام فولكنر، وأجابني هاتفا: “أنا أعمل في فرقة تُلقي قنابل كيمياوية. أنا أُجيد قتلَ الناس!”. ما الذي يتبقى من الأنوثة في الأرض التي تحرثها قنابل النابالم والغازات القاتلة؟ لو عاش سيزان في عراق ما بعد الحروب الثلاثة فأيّ نور سوف يواجه؟ وأختم المقال مع (إيتيل)، وكانت تقصّ في رسالتها كيف أن فريقا عراقيا للتنقيب اكتشف عشية الهجوم الأمريكي حجرةً تحتوي على مكتبة (سيبار) البابلية، وفيها قصّة الطوفان الذي أبقى على سلف لكلكامش. تتساءل الشاعرة: “وهل سيدمّرُ هذه المكتبة الأمريكان؟ إن قلوبنا مثقلة بالأسى على العراق”.