يتعرف قاسم أثناء سفره الى لندن عن قرب بالجواهري الكبير، الذي كان أحد أعضاء وفد نظمته السفارة البريطانية في بغداد لمجموعة من الصحفيين العراقيين لزيارة لندن والاطلاع على معالمها وتعمير، ما خربته الحرب العالمية الثانية بفترة زمنية قصيرة. مَثَلَ هذا اللقاء بين الجواهري وقاسم بداية العلاقة المتميزة والقلقة بينهما.
وبصفاء لغته واعتزازه الكبير بذاته المتمردة يصف الجواهري هذا اللقاء بالقول:« في الملحقية العسكرية بلندن… كانت بعثة عسكرية خاصة تضم ملحقين وموفدين من ضباط يتسابقون عليَّ ويجرني الواحد بعد الأخر من أرادني ؟ وكان بينهم ضابط شاب، كان من دونهم، أشد إلحاحاً علي بأخذ حصة أكبر، أو الحصة الكبرى من الجلسات واللقاءات، من جملة ذلك أن اصطحبني إلى بيته وهو شقة متواضعة بملحقاتها. هذه « الدويرة» شهدت ثلاث لقطات، تصح أن تكون على بساطتها ذات كلمة ومغزى، لما سيكون لهذا الرجل من دورٍ خطير في تاريخ العراق… لم يكن هذا الرجل سوى عبد الكريم قاسم «. اصطحب الزعيم قاسم، الجواهري إلى مختلف مناطق لندن ليطلعه على معالمها، بعدما نفر من البرنامج الموضوع لهم ومن صحبة بعض الصحفيين الذين كانوا معه ضمن الوفد. كما كان قاسم بمثابة مترجم له عند مراجعة الأطباء وزيارة المعالم الثقافية. كان قاسم معجباً أيما إعجاب بالجواهري الكبير، في كثير من مواقفه السياسية المناهضة لسياسة نخبة الحكم وارتباطها ببريطانيا وفي دفاعه عن الفقراء والمحرومين، وفي قصائده الشعرية موضوعةً وهدفاً، المتميزة بالصورة الجمالية وصفاء اللغةً، وسلمها الموسيقي المنفرد في انسيابيته. في ذات الفترة يسافر الوصي عبد الإله إلى لندن, حيث كان يقضي أجازته فيها, « وقد أرسل في طلب الجواهري, وتحادث معه طويلا حول ترشيحه إلى الانتخابات النيابية, وطلب إليه تمديد اقامته في لندن ليعود معه في وقت واحد إلى بغداد. لكن الجواهري اعتذر له بعدم امكانية بقائه لمدة أطول في لندن، وكان متضايقاً من اقامته فيها.... خرج الجواهري من اجتماعه بعبد الإله متوجها إلى الموعد مع صاحبه (الضابط برتبة رائد), حيث حجز له موعدا مع طبيب الاسنان وفي الطريق تحدث إليه عن الانتخابات النيابية المزورة, وخلو مجلس النواب من أصوات وطنية محترمة, لكن الضابط أنتقل بالحديث , إلى حفلة المساء الماضي وأبدى دهشته وارتياح الجواهري على كرنلواليس. وأخذ يترجم له الخبر المنشور تحت الصورة في الجريدة وخبر رويتر قائلا ببراءة أن الشعراء مسموح لهم كل شيء, وهم يشكون من عدم وجود الحرية. أما نحن العسكريين, فلا نتمتع بأية حرية ولا نشكو من انعدامها «.بعد ذلك, كان قاسم « يتابع مواقفي الوطنية والاجتماعية، وبخاصةً الشعرية منها. وكنت الوحيد الذي يناديني ب « الأستاذ « أمام اتباعه وغيرهم وفي أكثر من موقف… «. كما كان قاسم منذ بدء علاقته « صادقاً معي كل الصدق وأميناً كل الأمانة ونظيفا كل النظافة في حفاظه على تلك العلاقة، وصحيح كذلك أنه لم يصل مدني واحد في العراق هذه الدرجة من الثقة والوطادة والعلاقة… حتى وصل الحد به إلى أنه أعلن وهو يفعل ما يقول: أنني لا أرد طلباً للجواهري…».بعد عودتهما من لندن أخذت هذه العلاقة توهن واللقاءات تتباعد، بسبب طبيعة عمل الزعيم قاسم العسكري ونضاله السري لأجل تغيير الحكم حسب طريقته الخاصة. وفي الوقت نفسه نضال الجواهري السياسي السلمي بالكلمة والنضال السلمي التحريضي لتهيئة بعض من ظروف مخاض التغيير المرتقب ومستلزماته، ضمن دائرة رؤيته لذاته التي تعتمل داخلياً وبصورة عفوية قوية على سجيتها : « لعل الجواهري يُحِسُّ في قرارة نفسه بأنه لا أحد يصلح لقيادة العراق سواه...» و « يشعر في قرارة نفسه أنّه أكبر من أيّ رئيس, وأرفعُ قدرا».بمعنى آخر « عاد الجواهري إلى بغداد ولم يعد يذكر صاحبه الضابط في لندن ولا الضابط كانت تسمح له التزاماته العسكرية وطبيعته الشخصية ومشروعه الخاص، بتوسيع دائرة علاقاته في بغداد، والاتصال بشاعر سياسي كالجواهري «. وغيره من السياسيين العاملين ضمن خارطة التغيير المرتقب في عراق تلك المرحلة. خاصةً والجواهري كان أشهر من نارٍ على علم, حيث «... عرف عن هذا الملك غير المتوّج الذي اسمه الجواهري أن توحد في مرحلة الاربعينيات بالناس توحداً يكاد يكون تاماً, واشتُهِر بينهم بصفته شاعراً سياسياً فريداً في كل عصور الشعر العربي.أما سبب فرادته فهو أنه نقل الشعر السياسي من موضوعٍ إلى ذات... إن ما تحدث به الشاعر عن هموم الجماهير لم يكن من همومها هي وحدها, وإنما كان من هموم الشاعر نفسه, ولكنّ لهذا الشاعر من الموهبة الأصيلة ما يجعله يلتقط من همومه ما هو إنسانيّ, لا ما هو خاص به». استمر هذا الفراق المؤجل لغاية ثورة 14 تموز حيث تجددت العلاقة بينهما ثانيةً ببعدِ جديد ذي علاقة خاصة ومضامين بنائية مستهدفة.. وقد « تقاسم الصديقان الزعامة!! عبد الكريم قاسم زعيم السلطة السياسية. والجواهري زعيم السلطة الثقافية وزعيم الصحافة &a
قصة اللقاء الاول بين قاسم والجواهري
نشر في: 14 يوليو, 2010: 06:15 م