TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ثورةُ الغِناء

ثورةُ الغِناء

نشر في: 18 نوفمبر, 2012: 08:00 م

مُتْعِبٌ التفكير في الكيفية التي تجري وفقها الأقدار، فقد يبدو عليها أنها تقود الأحداث، وقد يبدو أنها تُقاد من قبلها. وشخصياً أميل إلى الاحتمال الأول، ومبرري هو العدد الهائل من الظروف التي تشترك بتحقيق أي قدر، وسواء أكان قدراً شخصياً أم مجتمعياً.. ولنأخذ مثلاً أمريكاً التي قُدِّر لها، أو أنها قدَّرت، أن تقود العالم منذ عقود، فصحيح أن هذا القدر تحقق بجهود شعب وعمل مؤسسات، لكن ثمة عددا لا يمكن إحصاؤه من الظروف المواتية ساعدت على تحقيق هذا القدر، منها هجرة الأوربيين الأكثر مغامرة وعنفواناً. ومنها تحولات القوى بعد الحرب العالمية الثانية التي جعلت أمريكا تجني عوائد اشتراكها في المعسكر الرابح، ومنها انهيار الاتحاد السوفيتي. بل حتى تفجير برجي التجارة، يبدو عليه أنه جاء في سياق تدعيم هذا القدر.
ستقولون إن أمريكا هي التي صنعت هذا القدر، فتحولات القوى في الحرب العالمية الثانية جاء بسبب اشتراكها فيها، وانهيار الاتحاد السوفيتي جاء بسبب خبثها وحيلها ومؤامراتها. وقد يكون هذا الرأي صحيحاً، لكنني مصرٌ على رأيي، فالأقدار تخدع من يعتقد بأنها قابلة للانقياد بسلاسة.
ما يدفعني لمناقشة هذا الموضوع هو "ثورة الغناء" التي حررت استونيا من الاحتلال السوفيتي، والتي وعدت بمقال سابق بأنني سأكتب عنها. فهذه الثورة هي الأخرى قدر، وهي بالتأكيد قدرٌ رائع. ولكم تمنيت وأنا اتابع محاضرة معززة ببعض الأفلام الوثائقية عن هذه الثورة، لو أنها حدثت عندنا، لكم تمنيت لو أن تاريخنا لم يرتبط بالدم والسحل والشنق والتفخيخ والاغتيال وووو الخ.
أثناء زيارتي لاستونيا بدعوة من برنامج دعم المشاريع في الأمم المتحدة (UNOPS) للإطلاع على أهم تجارب الديمقراطية، حدَّثنا المحاضر كيف مواطنوه قاوموا القمع الروسي عن طريق تجمعات جماهيرية واسعة تردد فيها الأغاني الوطنية، وهو أمر لم يستطع المحتلون التعامل معه بعنف، إذ الغناء دعوة للسلام.. حدثنا أيضاً كيف أن سلسلة بشرية شكلها أكثر من مليوني إنسان، امتدت عبر استونيا وليتوانيا ولاتفيا، تطالب بالتحرير عن طريق الغناء، تخيلوا؛ التحرير بالغناء فقط!!
حدثنا أيضاً، عن تطورات الأحداث التي دفعت الإستونيين لإنزال العلم الروسي ورفع علمهم على البرلمان، الأمر الذي أغضب مواطنين روساً يشكلون أقلية في هذا البلد، فقاموا بمحاصرة البرلمان وأعادوا علم الاحتلال فوقه، وهو فعل استفز شعباً ثائراً تجمع آلاف من مواطنيه، وأحاطوا بجموع الروس التي تحاصر البرلمان، وإزاء مثل هذه التطورات -يُكْمِل المحاضر- كان الجميع يتوقعون أن تحدث مذبحة، يُقتل فيها بعض الروس على يد الجموع الغاضبة، لكن المفاجأة كانت كبيرة، عندما فتح الثوار الإستونيين ممراً آمنا لمحتلي بلدهم وتركوهم يخرجون بسلام وهم يرددون خلفهم (Go Out).. لو أن روسيّاً واحداً قتل في هذا الحدث، لفشلت ثورة الغناء، ولتحول تحرير استونيا إلى حدث تقليدي بارد، لكن يد الأقدار الخفية، مسحت على رؤوس الآلاف المؤلفة وهدأت من روعهم.
أنا أُشرك الأقدار لأنني أرفض التصديق بأن الفشل الذي يحيط بنا هو مسؤوليتنا وحدنا، ليس من المعقول أننا نتحمل مسؤولية تأريخ كامل يغرق بالدماء، أقصد التأريخ الذي بدأ بسرجون ولم ينته بصدام، وما تخلل هذين العهدين الدمويين من معارك الجمل وصفين وكربلاء ومن قمع الأمويين والعباسيين ومن صراع الصفويين والعثمانيين ووو الخ.
إلى الآن لم نزل نرقص على إيقاع الدم، وإلى الآن لم يزل آلاف المواطنين الإستونيين يتجمعون في عيد استقلالهم ليرددوا بصوت واحد مختلف الأغاني الوطنية، الأغاني التي تؤكد حجم البسالة والإصرار والإيمان التي يمتلكها شعب يطرد غزاته بالغناء، بالغناء فقط.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ياسر الطائي

    نعم اتفق معك استاذ باننا نتحمل جزء من مسؤوليتنا في الوضع الذي نحن فيه الان

  2. عباس

    الاستاذ محسن ارجوا ان يكون مقالك القادم ماذا سنفعل بعد ان منعوا عنا الغناء ؟؟اذا كانت هناك وسيلة اخرى غير الغناء دلنا عليها لنطرد اللصوص والارهابيين الذين يتحكمون ببلدنا . وكيف يمكننا الى الوصول الى برلمان وحكومة وهناك الالاف من الحراس الذين لديهم اوامر ا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

العمود الثامن: لماذا خسرت القوى المدنية ؟

العمود الثامن: مع الاعتذار لعشاق الانتخابات !!

العمود الثامن: ماذا حـدث؟

عندما يجفُّ دجلة!

العمود الثامن: ماذا حـدث؟

 علي حسين قالها صديق عاد إلى الوطن بعد غربة طويلة.. سألني: لماذا أصبحت الهوية الطائفية حاضرة بقوة هذه الأيام؟ هل لأنّ هناك خطراً على الشيعة، أم أن السـُّنة يتعرضون لحملة اجتثاث؟ كانت أسئلته...
علي حسين

تحالف القضية الإيزيدية: خطوة أولى نحو تحالف وطني يتجاوز المكوناتية

سعد سلوم هل يمثّل فوز تحالف القضية الإيزيدية ولادة قوة سياسية جديدة للأقليات في العراق؟ وهل نجح الإيزيديون، عبر هذه التجربة، في إعادة تعريف التمثيل السياسي الذي ظل لعقود حبيس الكوتا والتجاذبات الحزبية؟ وهل...
سعد سلّوم

مرشّح التسوية: حين يتحوّل الانسداد السياسي إلى تقليدٍ لإنتاج الحكومات

محمد علي الحيدري باتت التجربة العراقية، عبر دورات انتخابية متعاقبة، تؤكّد معادلة ثابتة تكاد تُختصر بجملة واحدة: رئيس الوزراء الأكثر حظاً ليس صاحب الكتلة الأكبر، ولا زعيم القائمة التي تتصدّر النتائج، بل هو «مرشّح...
محمد علي الحيدري

قسوة الأرقام... والذكاء الاصطناعي

غسان شربل قالَ السياسيُّ العربيُّ إنَّه يشعر بالاستفزاز كلّما قرأ عن الذكاء الاصطناعي والتغييرِ المذهل الذي سيُدخلُه في حياة الدول والأفراد. والاستفزاز ليس وليدَ شعور بالصدمةِ من تغيير هائلٍ يقترب ولن يتمكَّنَ أحدٌ من...
غسان شربل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram