عبد اللطيف السعدون *أتاح لي عملي كمذيع في إذاعة بغداد ابتداء من ديسمبر ( كانون الأول ) 1960 فرصة للتعرف على شخصية الزعيم عبدالكريم قاسم عن قرب ، من خلال حضوري بحكم عملي للعديد من الفعاليات التي كانت تجري تحت رعايته وبحضوره ، أو من خلال احتكاكي المباشر بمسؤولين قريبين منه ، وكذا من خلال زملائي في الإذاعة الذين كانت تسنح لهم مثل هذه الفرص وتتكون لديهم انطباعات ما عن شخصية الزعيم وطريقة تعامله مع الأمور .
أذكر أنني كلفت بعد شهور من مباشرتي العمل في الإذاعة بمرافقة رئيس المذيعين آنذاك المرحوم قاسم نعمان السعدي لمعاونته في نقل احتفال وضع حجر الأساس لمشروع إسكاني في أحد أحياء بغداد يتم برعاية الزعيم عبدالكريم قاسم ، ولم أكن قد قمت من قبل بالتعليق الحي على فعالية كهذه ، وصادف أن تأخر زميلي عن الحضور لظرف طارئ ، وكان علي بحكم الواجب أن أتولى ذلك بنفسي ، وخشيت أن أتعرض لخطأ ما قد يودي بي في داهية ، ولكن لم يكن أمامي من خيار سوى أن أتوكل على الله وأبدأ ! وتقدمت بشيء من الخوف والتهيب لأقف إلى جنب الزعيم ، وهو يتهيأ لوضع حجر الأساس ، ويبدو انه لاحظ ذلك مرتسما على ملامح وجهي فالتفت إلي مبتسما ، وكأنه يهدئ من روعي . في تلك اللحظة أدركت أن قاسم يمتلك شخصية كاريزمية تجعل كل العيون شاخصة نحو عينيه ، فيما كانت عيناه تتقدان حدة وكأنه يخاطب كل امرؤ من الحاضرين وحده ! كان التقليد المتبع في احتفال كهذا أن توضع نسخ من الصحف العراقية الصادرة في ذلك اليوم ، وقطع من العملة العراقية بمختلف فئاتها في صندوق صغير يغلق ويودع عند الحجر الأساس ، وقد تقدم أحد المرافقين وهو يحمل مجموعة الصحف وقد استل منها جريدة " اتحاد الشعب " لسان الحزب الشيوعي العراقي لتكون الصحيفة الأولى إلا أن قاسم تجاهل ذلك ، وامتدت يده ليلتقط جريدة " صوت الأحرار " وهي جريدة يسارية مستقلة يرأس تحريرها الصحفي اليساري المعروف لطفي بكر صدقي ثم ليضعها داخل الصندوق قائلا " نضع أولا صحيفة الأحرار الذين آمنوا بالشعب وصنعوا ثورته الخالدة " ، واختار بعدها صحيفة " الثورة " لصاحبها يونس الطائي ، وهو صديق قديم لعبدا لكريم قاسم ، وكان واسطة التفاوض بينه وبين انقلابيي 8 فبراير 1963 قبل استسلامه ، وهو موضوع آخر ليس مجال بحثه الآن ، وعلق قاسم وهو يضع الجريدة في الصندوق بالقول أن " هذه هي صحيفة ثورة 14 تموز الخالدة " ، وبعد ذلك وضع الصحف الأخرى من دونما تعليق . كان تصرف قاسم هذا ينم عن ذكاء وتقدير للموقف إذ أنه على ما يبدو أراد أن يلغي انطباعا كان سائدا في تلك الفترة لدى أوساط كثيرة من انه " شيوعي " أو أنه " قريب من الشيوعيين " ، كما كان يريد أن يبعث برسالة إلى الشيوعيين أنفسهم مفادها أنه زعيم كل العراقيين ، وليس منحازا لفئة سياسية مهما كان حجمها وتأثيرها ! وفي مناسبة مماثلة في افتتاح مشروع إسكاني آخر كنت أقف إلى جانب الزعيم عبدالكريم قاسم حاملا جهاز التسجيل القديم الذي عادة ما يستعمله الجيش ( جهاز النكرة ) ، وذلك لتسجيل خطابه ، وبينا كان الزعيم مسترسلا في خطابه اكتشفت أن الجهاز قد توقف عن التسجيل لخلل فني لم أكن قادرا على إصلاحه ، وعندما انتهى الزعيم من إلقاء خطابه فكرت أن اطلع أحد المسؤولين بما حدث لكي تكون المراجع العليا على علم وربما تجد لمأزقي حلا ينقذني من عقاب متوقع من إدارة الإذاعة قد ينالني لاحقا ، وكان أن تقدمت من اللواء أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام آنذاك ، وبعدما شرحت له الموضوع فوجئت بإجابته بأنه لا يمكنه إعطاء رأي في موضوع كهذا وان علي أن أتصرف بما أراه مناسبا من دون أن يعرف أحد أنه قد عرف بالحادثة ، وقد قدرت في حينه أنه يخشى غضب الزعيم عليه ! وقد خدمني الحظ عندما عدت إلى الإذاعة وأذيع القسم المسجل من الخطاب ، ولم ينتبه أحد أن ثمة بقية للخطاب لم يتم تسجيلها ، ومر المأزق على خير . وفي مناسبة ثالثة حضرها قاسم وكنت أحد شهودها تقدمت امرأة من بعيد تبغي الوصول إليه ، وكان يحيط به رجال الحماية الذين حاولوا منعها من التقدم لكنها استطاعت أن تصل إلى بعد بضع خطوات منه ، وهي تصرخ لتشكو من ظلم ألحقه بها مسؤول إداري ، وكان أن نهرها المرافق الأقدم العقيد وصفي طاهر وأمسك بها محاولا إعادتها إلى الخلف فأطلقت صرخة لفتت انتباه الزعيم الذي بدا عليه الغضب ، ولمحت الشرر يتطاير من عينيه وهو يأمر طاهر بان يدعها تتقدم قائلا " إذا لم يستطع المواطنون أن يشكوا إلى الزعيم مما يتعرضون له فلمن يشكون إذن ؟ " وعندما وصلت كانت تلهث فهدأ قاسم من روعها واستمع إلى شكواها وأمر بإنصافها . ولاحظت أنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها قاسم إلى كونه هو " زعيم البلاد " فقد كرر أكثر من مرة في خطبه عبارة أن " الكل وراء الزعيم " ، وكان واضحا أنه يرتاح لهذا اللقب أكثر من أي لقب آخر ، ويعرف الجميع أنه عندما رقي من رتبة زعيم ركن إلى رتبة فريق ركن باعتباره القائد العام للقوات المسلحة قبل الرتبة ظل اسمه مقرونا بلقب ( الزعيم ) ، حتى في المخاطبات والمناسبات الرسمية . ولكنه فضل أن يبقى على لقب " الزعيم " الذي يفضله دون سواه ، وقد أضاف إليه أنصاره فيما بعد صفة " الأوحد " بعد إقصاء عبد ا
عبد الكريم قاسم .. صور عن قرب
نشر في: 14 يوليو, 2010: 06:31 م