د .عقيل الناصري "هناك شخصيات يتماهى وجودها التاريخي مع الذاكرة الوجدانية، تماما بالقدر الذي يجري استعادتها بوصفها قوة سياسية حية وفاعلة. وهي حالة تشير إلى قيمة الأحياء والأموات في الحياة السياسية، شأن كل ما هو قابل للتطويع والاستعمال في الصراع الاجتماعي. لكنها قيمة محكومة بما فيها من قدرة على التجدد أو التفاعل مع المزاج الاجتماعي وهموم الأفراد والجماعات.
وبالتالي فان قيمتها على قدر ما في أفعالها التاريخية من اثر في العقل والضمير الجمعي، أي في الذاكرة والذكرى الاجتماعية والروحية للأمم. وهو اثر قد لا يمكن على الدوام لمح معالمه القديمة، لكن من الممكن تتبع بصماته على أوتار الصراع الحاد، وبالأخص زمن الإنعطافات الحادة في تاريخ الدولة والأمة. وهي الحالة التي يمكن رؤية ملامحها بوضوح في ظروف العراق الحالية، بوصفها حالة نموذجية قابلة للتكرار. وهو الأمر الذي يجعل من دراستها قضية علمية تاريخية وسياسية مستقبلية بقدر واحد... "تكتنف دراسة شخصية عبد الكريم قاسم الكثير من الصعوبات والإشكاليات، بسبب قلة المعطيات البيوغرافية المتوفرة عنه من جهة، وقلة تكلمه عن ذاته وعائلته من جهة ثانية، ولأنه من أبناء الطبقات الاجتماعية غير المؤثرة ولا من الذين ولدوا في كنف الرغد والمكانة . لذا حاولت جاهداً الوقوف على هذه الشخصية ودراستها من مصادر عديدة متعارضة بل متناقضة في الوقت نفسه [ بالطريقة نفسها التي تتجمع فيها مجموعة من الغدران كي تملأ مجرى النهر الرئيس بغية تعميق المقصد الأصلي للسؤال: ترى من هو هذا الشخص، وما مؤهلاته؟] بحيث صاراً مَعْلَماً في الوعي الاجتماعي العراقي وفي الجذوة المتقدة لعقله الباحث في الخيارات المتاحة وحتى تلك الفنتازية منها.وأعتقد أن تاريخ هذا الرجل قد بدأ، بشكله الفعلي الأرأس، من خلال مساهماته الأولى في حركة الضباط الأحرار عام 1948، التي برزت في الساحة السياسية نتيجة عوامل موضوعية وذاتية، للبلد والمؤسسة العسكرية ببعدهما التاريخي. تبلور هذا التاريخ منذ قيادته لفعل التغيير الجذري، وتهيئة التربة للمشروع النهضوي المنتظر، ومساهمته فيه بصورة عضوية فعالة.. فكان له أهمية ووزن كبيران، بغض النظر عن رؤيتنا الذاتوية له، وهما مشتقان بالتحديد من الدور الذي اضطلع فيه وجسده مادياً.. وبالتالي رسم حدود حركة الواقع للدولة والمجتمع العراقي في العصر الحديث. سنحاول الدخول إلى هذه الشخصية من خلال المنهج النقدي، الذي هو المسار الصحيح لفهم الظواهر من جهة، كما أنه، من الناحية الأخلاقية، تعبير عن دراسة الظاهرة بصورة جدية، إذ من خلال هذا المنهج نستطيع تحديد نقاط القوة والضعف في الظاهرة المبحوثة بعد مقارنتها وتحليلها، وتحديد أبعاد تركيبتها البنائية . وطالما أن دراسة أية ظاهرة يجب أن تؤخذ ببعدها التاريخي المقترن بالمفهوم العلمي.. فيعني هذا، في بعض جوانبه، دراستها في حالة حركتها وتطورها الدائمين، ومعرفة شكلها ومدى تطابقه للمحتوى الموضوعي في حيز وجودها الاجتماعي . كما يعني من جانب آخر، أن الدراسة المؤسسة على النقد في الفضاء الثقافي " ...هو الذي يحفظ فرادة الفرد (وهو أهم أسس الحضارة الحديثة حسب تعبير الوردي) ويؤسس إنسانيته الفعلية، ويوسع جغرافية الحياة المادية والروحية ويحول خصوصاً دون اختزال الفرد إلى تجريد (الهوية السياسية). إن عمل الثقافة اللا نقدية هو صنع مقدسات ومحرمات... ". وقبيل الولوج في هذا الطريق الصعب في الظرف الأصعب وفي تحليل منطلقات قاسم الفكرية وبيئته المؤثرة.. يجب عليَّ التنويه إلى ناحية مهمة تكمن في:- أن قاسم كان رجل عمل حسب، يعتمد جوهرياً في مقاييس حكمه على الظواهر من نتائجها سواء أكانت ملموسة أو غير ملموسة. كما أنه لم يكن رجلاً منظراً أو مفكراً مجرداً يبحث في حركة المفاهيم والنظريات وسريان مفعول أواليتها (ميكانيزماتها) وسنن تطورها ومدى تطابقها مع الواقع المادي الملموس، بل هو لم يكن معنياً بها إطلاقاً لا من بعيد ولا من قريب، إلا بذلك القدر الذي يطور فيه نفسه من أجل تحقيق ما كان يدور في ذهنه من تصورات للواقع القادم وإمكانية تحقيقها مادياَ. وفي الحقيقة لم يكن قاسم مؤهلاً لهذا الدور [النظري] أصلاً.- في الوقت نفسه لم يكن رجلاً مصلحاً، يستطيع إعداد مخططات طويلة المدى لأجل بلوغ هدف معين.. أنه رجل عملي في تصوراته وواقعي في ممارساته. وقد ألزمه منطق منطلقه هذا حدود الاختيار الصعب في البلد الأصعب، والمتتوئم والمتزامن مع ظروفه وتعقيداتها، وتركيبته الاجتماعية وتعدديتها. وتعمق هذا الجانب واكتست سماته من واقع حياته في مطلع شبابه واحتكاكه بالمتغيرات الحياتية الني مزقت شرنقة السكون الاجتماعي والنمط التقليدي للحياة وتزمتات كياناته الصغيرة (العشائرية) التي تدور حول وحدة الدم والعصبية .كان قاسم من الناحية الموضوعية نتاج البيئة العراقية عامةً والبغدادية على وجه الخصوص وروح زمن تطورها، المتشبع بقيمها الاجتماعية والنفسية، بسلبياتها وإيجابياتها. ذلك الواقع الذي شهد تطوراً ديناميكياً منذ مطلع القرن المنصرم ، وازدادت إيقاعاتها بعد تكوين الدولة العراقية وبروز الحركات الاجتماعية وبداية تكوين الفئات الوسطى وصعود العسكر للسلطة، والتداول الجديد للغة السياسية التي أرستها مجموعة حسين الرحال في البدء، وطورت
المكونات البيئية والفكرية لشخصية عبد الكريم قاسم
نشر في: 14 يوليو, 2010: 06:33 م