حرصت دوما على ابتكار جسد متحرر من سطوة النمط منتشٍ بحضوره ومحتفٍ بتحرره
حاوره/ علاء المفرجي
ولد في بغداد . نال البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة عام 1999، ثم نال الماجستير في النحت من الكلية نفسها ودرس في اكاديمية الكرافيك تیداهولم السويد 2006-2007 كرافيك ،
ومدرسة الفنون العليا - فالأند ، جامعة بوتیبوري ( غوتيبورج ) السوید.. وهو عضو مؤسس للجنة الكاريكاتيرية العراقية . ومؤسس رابطة الكاريكاتيريين الشباب .نشرت تخطيطاته منذ 1979 في معظم الصحف و المجلات العراقية . كما نشرت في بعض الصحف و المجلات العربية لندن ،باريس ،عمان، مدريد. عمل مصمما في العديد من الصحف العراقية و صمم العديد من اغلفة الكتب ( الجائزة الاولى لاحسن الاغلفة العراقية 1992 ) . متفرغ حاليا للتصميم و الرسم .
ينتمي عبد الكريم سعدون الى جيل الثمانينيات، وقدم حضورا بارزا في الوسط التشكيلي من خلال نتاجاته في الرسم والنحت وايضا في الرسم الكاريكاتيري، غادر العراق عام 2001 ليقيم في السويد.
القسم الثاني
حاورته (المدى) للوقوف عن ابرز المحطات في مسيرته الفنية، وانشغالاته في مجال التشكيل.
* هل حدثتنا عن تجربة احتضان « المكتبة الإسلامية بمدريد» لوحة من أعمالك ، خاصة وإن هذا الصرح يضم لوحات لفنانين مهمين من بلدان مختلفة.. ما الذي شكله لك ذلك؟
- في عام 2002 تركت بعض الاعمال التي عرضت في معرضي الشخصي في مدريد والتي عرضت ثانية باستضافة من بلدية مدينة سان سباستيان في شمال اسبانيا وقد ابلغني الشاعر والروائي العراقي المقيم في مدريد عبدالهادي سعدون ان هناك موافقة ورغبة للحصول على عمل مني وعرضه بشكل دائم لينظم الى المقتنيات الدائمة في مكتبة فليكس ماريا باريا في مدريد ، طبعا كان هذا الخبر رائعا لا سباب عديدة ومنها ان جدران المكتبة تحمل اعمالاً لفنانين مهمين من بلدان مختلفة ولكن الاجمل بالنسبة لي هو ان مجموعة الاعمال المعروضة فيها تضم عملا نادرا للفنان الكرافيكي العراقي فايق حسين وهو العربي الوحيد الذي تعرض له المكتبة التي تعتبر من المكتبات المهمة والعريقة في العاصمة الاسبانية التي يرتادها الكثير من القراء والطلبة والباحثين لذلك فأن وجود عمل لي في صالة القراءة سيكون مدار مشاهدة يومية من قبلهم وهذا بلا شك شيء عظيم لان عملاً مني سيحظى بهذا المقدار من المشاهدة ، وأود القول ان تجربة العرض في مدريد وسان سباستيان قد حققت نجاحا بالنسبة لي لان نسبة المشاهدة في المعرضين كانت مرضية جدا والمقتنيات من الاعمال اثارت الرضا ايضا وهذا يطمانني بما سيكون عليه تلقي عملي على جدران المكتبة ونسبة تلقيه ، وافقت بكل تأكيد وتكفل د. عبدالهادي مشكورا بعملية تسليم العمل وتوثيق ذلك، هذا العمل هو الثاني الموجود في اسبانيا فالأول معروض بشكل دائم في متحف الدون كيخوته ومن مقتنياته. انا سعيد الان لأني مقيم الى جوار فايق حسين في مدريد مع اصدقاء كثر واعتقد انني سأظل هناك طويلا .
* صحيح ان بدايتك كانت في سبعينيات القرن المنصرم، لكنك تنتمي في الثمانينيات والتسعينيات الى جيل استجار من الرمضاء بنار الموهبة، التي كانت عبئا عليه.. بين اعتماد التورية والمجاز وايضا (التحايل ) بالرموز، واتاحة مجال كبير للتأويل في النتاج الابداعي.. جيل عاش قسوة الحرب والقمع والحصار اللا انساني؟
- قلت في مناسبات عديدة انني من جيل خرج من الموت بالصدفة، لان ادواتها كانت مصرة على تحييدنا تماما ولم تكن لتفرق بين هذا وذاك ، بل أن ظروفا مثلها تجعل الموهبة عبئا كما ذكرت لان الحروب تحتاج الى صوت يملؤها ويسير معها ويجري التهيئة له عبر تنميط نوعي ، والمعروف ان السلطة تستغل طاقتها لتفعيل هذا النموذج الذي تحتاجه لتمرير هيمنة صوتها، ولكن هذه الحروب التي راوغت فيها موتاً مجانياً، علمتني أيضاً كيف أراوغ وجوداً منمطاً مثله، فكما تعرف أن ممارسة رسم الكاريكاتير كرسام محترف تدلك الى اداة مهمة هي : التورية ، وهي الأداة الأمثل لتمرير ما تريده بأمان، وكانت هي الأنسب والأكثر نعومة في الاحتجاج، لم أكن باحثا عن بطولة ما لان الحرب تنتج خلفها حربا تسندها ولكن كنت كما الاخرين بحاجة الى طاقة مضافة للتنفس ومقاومة للتنميط، وهذا هو الذي يؤدي الى التعرف على ممكنات اللعب على سطح العمل الفني عبر الحذف والاظهار ، والحذف هنا تمويه لوجود العلامة ، فالاشتغال على السطح من العمق بحيث يفتح مدى التوليد بشكل واسع واذا استطعت ان اتلمس الاشتغال الضروري من سواه والعمل على تكوين طبقات العمل الفني التي تثير في المتلقي تساؤلات كثيرة وتجلي روح العمل الفني أكون متحققا من أن اللعب وصل مبتغاه ليتيح متسعا لانفتاح التأويل فيه وهو ما يبعد عن التورط فالرقيب ليس عميقا ولا يمتلك الوقت اصلا لذلك . يصبح الفن اذن اداة رائعة في مواجهة القسوة والقمع والعمل على اشاعة الجمال في وقت تلوث فيه كل شئ وتصير الموهبة موجها للمراوغة وجعل الحياة ممكنة .
* في أغلب اعمالك كان للجسد حضور ملتبس، حيث اختزاله وتسطيحه أحيانا، قلت مرة في حوار مع الشاعر محمود عواد: «الانظمة الشمولية تحاول دوما تنميط الجسد عبر منظومة من القوانين ومنها انتاج الهوية» ما الذي تعنيه؟ وماذا يعني الجسد في اعمالك وبكل تجلياته؟
- هناك دأب من الانظمة الشمولية لتنميط الجسد فهي تمتلك ايدلوجيتها شأنها شأن الدين والمجتمع وتجتهد في تحديد ملامح الانسان الذي تريده ، طيعا ومنساقا وتشتغل على تنميط وجوده وتعمل على حصاره في زوايا ترغب بها، انها تصمم له هوية ترسم ملامح حياته عبر منظومة من القوانين والاجراءت التي تتدخل في جزئيات حياتية هامشية حتى، فقط من اجل صورته المطلوبة والحروب التي تخوضها مثل تلك الانظمة تعطي صورة مثال حي بحيث يصبح بها الموت هدفا مرغوبا والجسد حقلاً لالاعيبه. نحن كما تعرف تعرضنا الى تجارب عديدة لازالت مستمرة في هذا المجال واصبح جسدنا عبارة عن طرس كل من يتعاقب مع الاخر، يكتب عليه ما يريده ويفرض عليه هيمنته ، وللتمكن من الحفاظ على ما أفكر به، وأريد التوصل اليه وبما ان الفن يحتمل التورية كأداة فاقتربت اكثر منها ومما توفره من الحرية في تقرير شكل العمل وانتشار مكوناته ولكن وفي الكثير من الاحيان يظهر عندي الميل الى العمل بوعي تام للوصول الى ما اريده والتمتع في نفس الوقت بحرية حركة الادوات وما تفرضه من عفوية تمكنني من التمرير لذلك فأنا حرصت دوما على ابتكار جسد متحرر من سطوة النمط أي جسدا منتشٍ بحضوره ومحتفٍ بتحرره من كونه جسدا منمطاً ، ففي أعمالي تجده في كيفيات متغيرة ويحضر بكل ما يشير اليه كوجود مستقل ومكتف ومكتنز بطاقة على البث ويصبح هو المهيمن الذي يوجه التلقي. ان التجريب المستمر افادني كثيرا في ذلك فهو امدني بالقدرة على التركيب والتحقق منه عبر ازاحات تتم هنا بالحذف والتشييد اي ان بناء طبقات العمل تتيح لي الاقتصاد بموجوداته وهذا يحقق لي ايضا اجراءات الاختزال فيه لتعميق ما اريده من انفتاح التأويل ، فالجسد الذي يحضر في اعمالي لا يشبه جسد الواقع الا في بعض ملامحه للحفاظ على كونه باثاً ، هو علامة مستقلة متخففة من اثقال وجود الجسد في الواقع ومترفعاً عن آثار التنميط، جسد له وجود رافض لكل ما تعرضنا له من قسوة، ورغم ان التنميط يخلف ندوبا عليه لا يمكن للتسامح ان يخفيها الا ان حضوره يكون مثيرا لتساؤلات كثيرة ومحرضا على التفكّر بأجوبتها ، وهذا ما اريده من وجوده في اعمالي . وقد ذكرت في مناسبة سابقة بأن لدي شعور بأن الكثير من أعمالي تشتغل حتى في حالة إزاحة الجسد منها ولكنه يلقي بظلاله ويصر على الظهور فاعلاً أولاً، طالما أن هناك من أتحسس فيه يومياً فعل المراقبة والنظر الموارب، ليستحيل وجوده شاهداً. لذلك أرى الطراسة هي في الحقيقة توصيف فعال لما أعمله، لأن العمل على موضوعة تعيش معي وأمر بها في كل يوم من أيامي هنا تستدعي حتى باللاوعي تشكلاً لحضور حيوات متعددة، حيوات الحروب والقسوة والألم والحزن الخفي والانكسارات والإحباطات، فجيلي هو نتاج عمليات تنميط لم ينجو منها حتى وهو في غربته.
* المراقب لكل اعمالك - انا اتحدث هنا عن الرسم – وعلى مدى تاريخ امتد لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تحولات واضحة في اسلوبك في الرسم، هل يرتبط ذلك بالوعي بالتجريب، أم أن له اسباب أخرى؟
- البحث الدائب عن الحرية في العمل والانتاج الفني ضروريا، وهذا برأيي لا يتحقق الا عبر التجريب المستمر، والفنان الحقيقي من يعي أهمية ذلك وقد رأينا عبر العقود الماضية من متابعة الفن ونتاج فنانيه ان التوقف عن التجريب يؤدي بالعمل الفني الى ما يمكن ان نسميه بالأسلوب وهذا برأيي يعرضه الى تكرار غير مقبول لان ما يحققه التجريب من فتح مديات المعرفة الفنية للتعرف على ممكنات جديدة للمواد الخام والادوات وطرق استخدامها ويوفر مدى واسع يعدد مسارات التجديد والابتكار، والمقصود بالحرية هي الممارسة التجريبية التي تتيح لك اشتغالا على السطح المادي متحررا من تبعات الدرس الاكاديمي لانني اشعر بأن ابوته تقيد العفوية وتمنع الاجتهاد وكل ما حصل من انفلات في الاشتغالات الجديدة في الفن كان تقويضاً للإعاقات التي كانت تقف في وجهها وتجاوزتها واصبح من المستحيل العودة اليها دون مبرر يسوغها ، ان مجرد تفحص الاعمال الفنية المختلفة وعبر عقود طويلة يجعل من السهل التعرف على الخروقات التي حصلت والتي كان سطح العمل الفني ميدان لها واتحدث عن الرسم خصوصا، في البدايات المبكرة لي لازمني الاحساس بأن بعض الاعمال الفنية التي تنشرها كتب الفن كانت الاقرب الى ذائقتي، وأصبحت كذلك فيما بعد نتيجة الوعي بها ، احاول بين فترة واخرى أن أتفحص تجربتي للتعرف على الكيفية التي يتطور فيها الشكل عندي وكيف تتغير بنية العمل الفني وهذ يجعل القدرة على التغير اكثر مرونة من الوقوف في حيرة، والوعي بالتجربة يحتم معرفة بصرية جيدة ومهمة للفنان ليتعرف على موضع قدمه والاحتكاك بالآخر واقصد به الفنان الذي ينتمي الى منطقة وثقافة اخرى، يوسع ادراك قيمة تجربته والمديات التي وصلتها وكذلك الى اين يمكن ان تحلق بها .
* مرجعيتك في الرسم واضح انها تعود الى الموروث العربي والاسلامي .. لكن اعمالك الاخيرة تؤكد تأثرك الواضح بالفن الغربي هل اسهم ذلك في تطوير تجربتك الفنية.. هل لذلك علاقة بالمكان؟
- لاشك بأن لدينا موروثا في الرسم يعتد به وفي العراق لا يمكن تناسي تجربة الواسطي وملامحها واعتقد ان الفن العراقي لازال خاضعاً لمؤثرات الرواد من جواد سليم الى شاكر حسن آل سعيد وصولا الى كاظم حيدر واسماعيل الترك والمرجعيات التي اسسوا لها بالاضافة الى تأثيرات الدعوات الواسعة الى العودة الى التراث الثقافي العراقي والعربي عموما وبأعتقادي ان الفنان الحقيقي يجب ان يكون ابن عصره فالرواد كانوا معاصرين ايضا ولهم همومهم الفنية والفكرية ، ولا اخفيك فأنا كنت شديد التعلق بالمرونة التي يمنحها الخط المنحني للشكل ولكن ادراك ان الامر يجعلني اقف عنده بشكل دائم يبعدني عن العيش في عصري، كان لدي تطلع لمزيد من التجريب وتقبل الجديد وكما تعرف ان الرسام ينتج في ظل قواعد واحدة في اي مكان ، لان الاساليب التي تلتزم القواعد الموروثة في انتاج الفن التشكيلي والتي استنفدت أدواتها بفعل التغيرات الجديدة، لم تعد تزخر بالكثير من المرونة والحيوية والحرية في التعبير واصبحت تحدُ من امكانية تحليق الفنان في أُفق جديد ، فالرسم لم يعد هو الاختلاف وانما الكيفية التي يُنتج بها، واصبحت التأثيرات المتبادلة تتعزز أكثر ووصلت الى بقاع مختلفة، ان المشكلة تكمن في أن المركز سبقنا بمسافة طويلة فهو الذي يحدد المسارات ويرسخها، والفنان العراقي يمتلك بالأساس اولويات الانتاج وله تجربته ولكننا نحتكم كثيرا الى الدرس الاكاديمي ونتردد في قبول التمرد بسهولة واقصد ان تقويض قواعد انتاج الفن لا تجد لها تقبلا يسيرا ونربطها باستمرار بتشكلات الهوية ولا توجد قواعد تلقي متزامنة واي محاولة للخرق تصطدم بمصدات تعوق ذلك ، هذا الامر يشكل ازمة في المكان الجديد فمن تجربتي الشخصية انني وجدت من خلال المتابعة للعروض الفنية مثلا ان هناك انواع فنية متعددة تجدها منتظمة في بنية عمل واحد بانسجام تام في الوقت الذي كنت افرزه في داخلي وينتابني شك حوله الا ان الوعي بأسباب ذلك دفعني بقوة الى اشهار تفكيك البنى التي اشتغل عليها والانتقال الى قواعد جديدة لا تؤطرها حدود ولا تحد من انطلاقتها باتجاه الجديد لذلك اتجهت بأدواتي الى النهل من تلك الحرية التي توفرت لي والتفكير بتجريب اشتغالات لم تكن موجودة سابقا وهذه الانطلاقة الجديدة هي من تأثيرات المكان الجديد بكل تأكيد، فأصبحت التحولات في النتاج الفني لدي حادة وسريعة ومختلفة على صعيد الشكل الذي امتلك سمات اكثر قربا للتبسيط عبر انزياح للكثير مما يثقل وجود العلامة في متن العمل الفني وبؤرته كما اصبح الفضاء المحيط بما يؤثث العمل أكثر اتساعا، الا انني تلمست ان السطع التصويري اصبح اكثر تعقيدا ويحتاج الى معاينة عن قرب للتأكد من الكثير الذي يحتويه خصوصا ان التراكم فيه شكل طبقات متعددة ومتراكبة وهذا ما استطيع القول فيه انه شكل ملامح اسلوب متحرك فيه الكثير من الدراية التي مصدرها القلق والحرص والايمان بأن التوافقات الشكلية على سطح اللوحة تفتح آفاق المخيال الى مداها وتحاول تعريض قواعد التلقي الى هزة لتقبل الجديد والتفاعل معه بصريا. فظهر الملمس الخشن والاختزال في الشكل والتقشف باللون يشغل سطح العمل ويتسرب الاحساس بالاهتمام بتوزيع حر للمفردات ويبدو الامر وكأنها تطفو في فوضى السطح وهذا الامر اثار انتباه الناقد الفنان خضير الصالحي الى القول بأنني استعير من قصيدة النثر قواعد اشتغالها ، هناك تعدد في الانواع الداخلة في تعالقات مع بعضها البعض فيجد المتلقي بالإضافة الى طريقة الرسم والاشكال التي تبتعد عن القاعدة وتقترب من التشكيل الحر للشخوص ما اسميته تنوعا لذيذاً لان المراجعات الضرورية للتجربة ومعاينتها باستمرار بينت لي الحقيقة التي تكمن في ضرورة تفكيك قواعد الأمس التي اصبحت هدفاً للاشتغال الجديد ففيها وضعت كل اشتغالات الأمس التي تحتوي طاقة التعبير في الرسم والنحت والغرافيك والكاريكاتير والتصميم في عمل واحد. ومع ذلك فأن الاعتراف ضروري بأن ظلال من المنمنمات والواسطي تحديدا لازلت اجدها في سطوح اعمالي وكأن منظور العنقاء كما يسميه الفنان أسعد عرابي هو الذي يهيمن على بنيتها.
*في اعمالك نتوقف عند ميزة مهمة وهي بروز العناصر نفسها ولكن بوظيفة وأشكال اخرى .. هذا التكرار.. هل تمارس هذه العناصر وجودها المنفرد في اللوحة ام تراها سلسلة من دلالات تتكون منها تجربتك الاسلوبية؟
- هذا السؤال مهم جدا لتوضيح ما يراه الكثير من الاصدقاء تكرار وانا اراه تأكيدا لوجود قضية تتعلق بالإنسان ووجوده القلق واقصد به المهاجر قسراً أو ما يسميه البعض منفي ، فنحن نملك خصائص قد تبدو مختلفة بعض الشيء عن الاخرين بامتلاكنا تعلقا مدهشا بالوطن ورغبة عارمة بالانتظار، ففي أعمال كثيرة كررت وجود الشخص الجالس على كرسيه ، المنتظر ، لتأكيد رغبة بالانعتاق من حالته الوجودية التي تفرض عليه معيشا قسريا مهما كان شكله وهذا الشخص هو استعارة واقعية لكن له وجوده المجازي في العمل، اردت ان أعكس فيه حالة العاجز فأحلت الواقع الى الافتراض واصبح كما اراه اقرب للتعبير عن الحلم ، وهذا التناقض اردت منه التركيز على مفهوم الغربة من وجهة نظر تستند الى معيش يومي، زمن الغريب فيه متوقف، ومن وجهة نظر فنية تتعلق باشتغالي على سطح العمل الفني فإنني اهتم بالكيفية التي ارسم فيها والتي تشبع غرور الفن لدي مع التأكيد الدائم على تقديم جسد يمتلك حريته حتى في انتظاره والاختلاف بين هذا العمل وذاك، اجده كامناً في تقديم معالجات تبعد المتلقي عن الشعور بالتكرار وتقربه الى تفعيل احتدام الاسئلة وقد كنت في اعمال سابقة اعتمد التكرار في العمل الواحد مستعيرا ثيمة اساسية تتوفر في المنحوتات العراقية القديمة ومنها الاشتغال الطباعي للأختام السومرية فالتكرار يفيد التنوع، وبما ان الفنان يعمد الى اثارة اسئلة فمن المفيد تقديمها بأشكال مختلفة تسهل الطريق الى التفاعل معها وما جعلني استمر في ذلك هو الاغواء الذي تكتنزه وتؤشر به الى ملامح اسلوبية قد تكون مميزة، ويمكن من خلال متابعة حضور الجسد في اعمالي المتعاقبة يجد المتلقي تعدداً في سماته وفي بعض الاحيان في تنويع وجوده . شخصيا اعتقد ان هذا الاجراء المقصود به ايجاد فضاء اوسع للعلاقة بين المتلقي والعمل الفني، فيه امكانية ممتازة لتوسيع دائرة الاسئلة اكثر مما هو بحثا عن الدلالة، النص البصري يحتاج الى محركات فاعلة تبعده عن ان يكون نصا مغلقاً ، فتكون الحاجة ماسة ومتعمدة لاشغال بصر المتلقي بالكثير من العلامات في بنية العمل التي يكون وجودها ثانويا ولكنه مفيدا لبنية الشكل الجمالية، لان بحثه المباشر عن المعنى فيه قد يفسد تمتعه به وتلك برأيي اشكالية قائمة تحتاج الى زمن وجهود، في الكثير من اعمالي كما قلت انثر مكونات العمل او علاماته نثرا حرا ، لكن هذه الفوضى تجد لها نظاما في بنية التكوين يمسك عليها ويحدد تواجدها في اماكن تبدو مدروسة رغم ان الصدفة قد تنتج على سطح العمل خيارات يصبح تواجدها ضروريا، فالاختزال والحذف ومايفعله تراكم الطبقات فيه ينشئ الخيار الاسلوبي في العمل والتجربة برمتها.
*في أعمالك النحتية تلتمس المغايرة وأستخدام مواد مختلفة في العمل؟ حدثنا عن ذلك؟
- لاشك ان المكان الجديد وفر لي الكثير من الحرية في التفكير والانتاج وعلى الفنان ان يحدد له معنى للحرية التي يجب امتلاكها لإنتاج فنه. شخصيا استفدت كثيرا مما يوفره المكان الجديد من ممكنات العمل والانتاج الحر للفن وكذلك شكل العرض وعندما يكون الاحتكام للعمل ونتائجه في بيئة معينة فأن الامر يدعو الفنان الى التحرر من اشتراطات المادة في النحت خصوصا فعملت على الورق في تشيد بنية العمل النحتي كما استفدت من عملية اعادة تدوير المواد المستعملة ايضا ، فعرضت مجموعة من الاعمال النحتية المنتجة بورق الصحف المهملة وبمفاهيم تلامس العصر الذي نعيشه وقضاياه الشائكة كما عرضت في اكثر من معرض اعمالاً مفاهيمية أعدها شخصيا تقترب من النحت ظاهريا (واسميتها اعمالا نحتية) من جانب كتلتها البارزة الموحية بالحجم وكانت مشغولة بالورق وبأطوال تتعدى مئات الامتار بالقياس الى حجم العمل وهذا العمل الذي كان يخص مفهوما يتعلق بالتدمير الحاصل لثقافتنا كان اشتغاله وعرضه مرنا ، فطريقة عرضه تختلف من معرض الى اخر ويكاد ان يكون عملا مستقلا كل مرة وجديداً كما اشتغلت على الخشب المهمل ايضا وانتجت اعمالا مركبه من هذه المادة مع الورق في بنية واحدة ، ولعل العمل الاخير الذي عرضته في المعرض الشامل لمهرجان الواسطي في بغداد يعطي ملامسة واضحة لمشروعي النحتي فما عرضته ايضا كان تدويرا لمواد مهملة واقول مهملة لانها استفدت الغرض منها وتم اهمالها ، كنت محتاجا لإيجاد ما يوحي بالوزن الكبير والحجم الضخم وبالخفة في نفس الوقت ( اسميت العمل: الامتلاء ليس معيارا للقيمة ) فوجدت اكياسا ورقية بقياسات اكبر من التقليدي ومهيئة للامتلاء بالهواء وهكذا ارتأيت استعارتها من سياقها الاصلي الى سياقها الفني الجديد لأعطاها الزخم الدلالي الذي اردت اظهارها به ولكي توحي بالمفهوم الجديد واعتقد انني نجحت في ايصال ما أردته منها . لا اعرف اتجاهاً الى المغايرة أو اذا كانت هناك مؤشرات تقودني اليه ، ولكني كفنان وفي بيئته الجديدة كنت افكر كثيرا في كيفية الاشتغال في اعمالي وفي كيفية أيجاد دربا لا يمر بي على الاخرين وكنت اشتغل كثيرا في المشغل وفي طريقي اليومي اليه كنت اصطحب كل اصدقائي معي ولكنني عندما ادخله، اقفل بابه عليّ وحيداً مع ظلي .