لا غرابة في أن تشاهد الرايات السوداء واليافطات التي تحمل أيقونات العزاء الحسيني التي تحيي ذكرى عاشوراء مع إطلالة شهر محرم الحرام من كل عام، لكن الغريب أن تتحول هذه الطقوس السنوية من مادة لاستذكار مآسي أهل البيت إلى محطة سياسية تنطوي على شعارات تنتقد الواقع السياسي والاجتماعي في توظيف لا يخلو من الذكاء والحنكة.
وبعد التغيير في 2003 رفع الحظر عن الكثير من الطقوس العاشورائية، كاللطميات وركضة طويريج والطبخ، التي كان يحرص نظام صدام على منعها وإلحاق عقوبات مشددة تصل الى حد الإعدام بحق من يمارسها في السر والعلن.
وفي ستينيات وسبيعينات القرن الماضي استخدمت أحزاب دينية وأخرى علمانية المواكب الحسينية للتعبير عن متبنياتها الفكرية والسياسية آنذاك فيما يشبه عرض القوى في اطار الصراع المحموم الذي كانت يشهده العراق بين الحركات اليسارية والدينية.
ومنذ اعوام بات العراقيون على موعد سنوي مع احد اكثر المواكب الحسينية تميزا ، هو موكب "العباسية" الذي يعد من اعرق المواكب في مدينة كربلاء، اذ يشير البعض من أهالي المدينة المقدسة الى ان تاريخ تأسيسه يعود إلى العام 1888.
وتقوم القنوات الدينية طيلة الأيام العشرة الأولى من شهر محرم الحرام ببث يومي لمواكب العزاء التي تقصد الحضرة الحسينية كل مساء من جميع أحياء وضواحي المدينة المقدسة حيث تتقدمها يافطات تحملها مجاميع المعزين تتضمن شعارات "ردات" يرددها المشاركون بشكل منتظم وبألحان حزينة. وتحول موكب العباسية إلى "ظاهرة" الموسم العاشورائي إذ بات يستحوذ على متابعة الكثير من المشاهدين نظرا لترديده شعارات غير مألوفة في مثل هذه المناسبة الدينية بعد أن يكون آخر المواكب الداخلة إلى المرقد الحسيني.
واستأثر موضع الغاء البطاقة التموينية وهروب المسؤولين من حملة الجنسيات الأجنبية والفساد الذي يشوب مؤسسات الدولة على شعارات اليوم الأول من شهر محرم في هذا العام عبر ترديد هذه الأبيات:
خط احمر تظل عدنه البطاقة
نحذر لا تعبروها بحماقة
ما تكفي الخزينة ..ركضتو علطحينة
يبو اليمة.. يبو اليمة.. هاك اسمع حجينه
ويقول الشاعر زهير الشافعي في حديث لـ"المدى" أمس إن "موكب العباسية من أقدم واعرق مواكب مدينة كربلاء وهو مشهور باستثمار مناسبة عاشوراء لطرح قضايا محلية عن حياة الناس بالإضافة الى الشعارات السياسية منذ ستينيات القرن الماضي"، ويضيف "قدم الموكب العديد من الشهداء والمعتقلين في زمن النظام بسبب طابعه النقدي وصولا إلى منع الموكب من ممارسة نشاطه في عام 1978".
ويضيف الشافعي، وهو من مواليد 1969 وحاصل على شهادة الآداب من جامعة بغداد، ان "موكب العباسية استعاد نشاطه بعد سقوط نظام صدام وقمنا بالاستفادة من تجربة شيوخ الموكب لاعادة الروح للشعائر الحسينية"، ويتابع "تحضيراتنا لموسم محرم تبدأ قبل أسبوعين من الشهر حيث نحدد اهم القضايا المحلية والإقليمية لتضمينها في رداتنا اليومية مع ملاحظة المستجدات وعدم إهمالها".
وينفي الشاعر الكربلائي، الذي يعمل مع 5 شعراء آخرين على كتابة الردات التي يرفعها موكب العباسية يوميا، تعرضهم إلى "مضايقات الاحزاب والشخصيات التي يطولها الانتقاد"، عازيا ذلك الى "حصانة تاريخية لكون الموكب يعود لمنطقة معروفة بالتزامها الديني ومعارضة نظام صدام". وبرغم اتهام الموكب بتبني توجهات يسارية، وبالأخص شيوعية، يرى الشافعي ان "هذه تهمة كانت توجه لأعضاء الموكب في السبعينات لأنهم غير متزمتين دينياً". ويؤكد ان عملهم "يحظى بمباركة مراجع الدين لان شعار الإصلاح ومحاربة الفساد الذي نرفعه هو جوهر ثورة الإمام الحسين".
ويلفت الشافعي الى ان "سر نجاح موكب العباسية هو تعبيره عن معاناة المواطنين الذين غالبا ما يطلبون منا رفع شعار معين لأهميته وصلته بحياتهم اليومية"، مشيرا إلى ان "البطاقة التموينية والدعوة لمحاسبة المسؤولين الفاسدين كانت باكورة عملنا لهذا العام".
وحول استخدام اللهجة الشعبية في الردات الحسينية وعدم استخدام الفصحى، يقول زهير الشافعي ان "اللهجة الشعبية هي الاقرب لإيصال رسالتنا لأننا نبتعد في شعاراتنا عن الغموض والتعقيد الذي قد لا يفهمه المخاطب البسيط اذا ما استخدمنا الفصحى".
وعن طقوس ليلة العاشر من محرم، حيث تبلغ الطقوس العاشورائية ذروتها بمشاركة ملايين الزائرين، يقول الشافعي "لا تختلف شعاراتنا في ليلة العاشر عن بقية الليالي الا بتركيزها على مواضيع اكثر حساسية خصوصا في المستجدات السياسية والمعيشية خلال الايام التي سبقت".
ومن اهم المواضيع التي تطرقت لها "ردات" موكب العباسية خلال الاعوام الماضية ، الارهاب وعقود النفط والفساد الإداري واحتلال حقل الفكة من قبل إيران، وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت نماذج من الشعارات التي رددها موكب العباسية منها:
كالو اجه التغيير .. كلنه انسعدنه
تالي صفت مكلوب .. والله انمردنه
نبقه اعله هل المنوال .. انريد اليغير الحال
***
وين الاعمار الوطني .. وين الليحجون؟
واحدهم جاي يفرهد ... خلي يسمعون
كل القصة ومابيها .. حاميها حراميها
يا حسين اسمع هذا الصوت
****
كـل بـرلماني ومـا يـفيـد الـشعـب
لا مو عراقي ومو صحيح النسب
يحرم عليه ماينه
ميشم هوا أرضنه
يــحسين عــاهــدناك مــا ننــثني